مجلة الهدى- كانون الثاني 2014
عندما سمعت بخبر وفاة نلسن مانديلا، قبل ثلاثة أسابيع، قررت أن أكتب عنه، لكنني لم استطع في البداية، رغم اني اهتممت به وبحركة التحرر في جنوب أفريقيا منذ الصغر حتى أنني كتبت رسالة الماجستير في حياته ونضاله قبل عشرين عاما، بالإضافة إلى مقالات أكاديمية أخرى. لا يعرف المرء أين يبتدئ وأين ينتهي عند الكتابة عن هذا الرجل الذي غير مجرى التأريخ وامتدت حياته قرنا من الزمن…
ورغم أنني اهتممت بمانديلا منذ الستسنيات إلا أن اهتمامي به وبحركته المناهضة للعنصرية قد ازداد عندما انتقلت للعيش في لندن مطلع عقد الثمانينيات بسبب الاهتمام الكبير الذي حظي به هذا الرجل وحركته في الغرب. ومن حسن الصدف أنني التقيت أيام الدراسة بشخص من الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا لكنه كان متعاطفا مع حركة التحرر الأفريقية فأخذ يحدثني عن الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي في ذلك البلد النائي. وقد تعلمت عند دراستي الاقتصاد أن جنوب أفريقيا من البلدان المتقدمة اقتصاديا مقارنة بباقي دول أفريقيا الأخرى…
وكنت أثناء إقامتي في لندن أمر، عندما تسنح الفرصة، بساحة الطرف الأغر وسط العاصمة البريطانية لرؤية الاعتصام المتواصل أمام سفارة جنوب أفريقيا والذي استمر حتى إطلاق سراح مانديلا في الحادي عشر من شباط عام ١٩٩٠. وكان معظم المشاركين في ذلك الاعتصام من الإنجليز المناهضين للعنصرية وهو أمر أثار إعجابي أيضا…
لقد كنت أعجب حقا من الاهتمام الذي أولاه الغربيون لنلسن مانديلا وحركة التحرر الأفريقية التي يقودها، ليس لأن هذا الأمر مستغرب عندهم، ولكن لأن الاهتمام هو أكثر بكثير مما يقدمه الغربيون في العادة لحركات التحرر في البلدان الأخرى. وبعد أن حُلّت مشكلة جنوب أفريقيا بدأ الاهتمام الغربي يزداد بالحركات المطالبة بالحرية في بورما ومقاطعة التيبت في الصين. هذه الحركات الثلاث، في جنوب أفريقيا وبورما والتبت، إضافة إلى بولندا، تلقت دعما واهتماما غربيا أكثر من الحركات الأخرى في العالم. وهناك أسباب مختلفة لهذا الاهتمام لكل منها ولكن دعوني أركز اليوم على جنوب أفريقيا بمناسبة رحيل قائدها الكبير نلسن مانديلا…
كنت اعتقد أن الاهتمام الغربي بنلسن مانديلا كان تعاطفا مع سجين أفريقي طالب بحقوق شعبه المشروعة وأن هذا التعاطف سيتقلص أو ينتهي حالما تنتهي المشكلة، لكنني ذهلت عندما رأيت أن الاهتمام العالمي، والغربي تحديدا، ازداد أضعافا بعد إطلاق سراحه إذ واصل الإعلام الغربي نقل أخباره وخطاباته ونشاطاته أولا بأول.
أثناء دراستي للماجستير في لندن قررت أن أدرس شخصية مانديلا وحركة التحرر من العنصرية التي انطلقت في جنوب أفريقيا منذ نهاية القرن التاسع عشر واستمرت حتى نهاية القرن العشرين. وقد أطلعت على السبب الحقيقي للاهتمام العالمي بهذه الحركة وقائدها.
هناك سببان رئيسيان لهذا الاهتمام في رأيي:
الأول هو أن النظام العنصري في جنوب أفريقيا نظام قبيح لا يمت للعصر الحديث بصلة وأن الغربيين شعروا بالعار والحرج الشديد من هذا النظام الذي يدعي الانتماء إلى الثقافة الغربية لكنه يميز بين الناس على أساس اللون والعرق، خصوصا وأن الأقلية الحاكمة تنتمي عرقيا إلى أوروبا، فهي أصلا من هولندا. لذلك شعر الغربيون بالعار وبادروا لأن يعرّوا هذا النظام بأنفسهم ويقفوا مع الأفارقة المطالبين بإزالته وإقامة نظام عادل محله.
السبب الثاني هو أن المؤتمر الوطني الأفريقي، وهو الحركة الرئيسية المناهضة للعنصرية في جنوب أفريقيا، كان قد تبنى أفكارا إنسانية عصرية تدعو إلى الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان والتعايش بين الأعراق وهذه الأهداف تحظى بتأييد الغربيين بشكل عام لأنها من صلب أفكارهم ومتبنياتهم. هناك حركة أخرى مناهضة للعنصرية في جنوب أفريقيا لكنها متشددة وهي المؤتمر القومي الأفريقي وقد وجدت هذه الحركة قبولا أكثر في أفريقيا لأنها تدعو إلى إقصاء البيض كليا. لكن الحركة التي أيدها معظم الأفارقة في جنوب أفريقيا هي المؤتمر الوطني الأفريقي بقيادته التأريخية الممثلة بنلسن مانديلا وأوليفر تامبو وولتر سيسولو وآخرين
أما شخصية مانديلا فقد كانت تحمل صفاتٍ قياديةً فريدة من نوعها، أهمُّها العفو والإيثار والإنسانية والإيمان الحقيقي بالمساواة، وكان مانديلا يؤمن بها فعلا ويطبقها على أرض الواقع ولم يتبناها لأسباب سياسية شعبوية كما يفعل السياسيون في العادة. كان طوال فترة نضاله من أجل الحرية والمساواة مستعدا للتضحية بحياته في سبيل قضيته وقد فاجأ العالم عندما وقف في المحكمة عام ١٩٦١ ليلقي خطابا سياسيا بدلا من الدفاع عن نفسه وتبرئتها من التهم الموجهة إليه، وكان يعلم أن هذا الخطاب سيقوده إلى الإعدام لكنه فضل أن يوصل رسالته الإنسانية إلى العالم كله على أن يبقى حيا. هذا المحامي البارع لم يدافع عن نفسه، بل دافع عن قضية شعبه وآثر أن يموت كي تبقى القضية حية وشاءت الأقدار أن يبقى حيا ويؤسس دولة رائدة تقوم على العدل والمساواة والديمقراطية.
طوال فترة نضاله التي فاقت السبعين عاما، وحياته التي امتدت ٩٥ عاما، لم يلِن ما نديلا في قضية المبادئ التي حملها، وعلى الرغم من الظلم والإذلال اللذين مارسهما النظام العنصري ضد الأفارقة إلا أن مانديلا لم يحمل تجاه العنصر الأبيض أي ضغائن ولم يلجأ إلى الثأر والانتقام بل كان وسطيا في سلوكه وطروحاته منذ صباه. في سن الثالثة والعشرين، وأثناء دراسته للقانون، اشتغل مانديلا موظفا صغيرا في شركة للمحاماة في جوهانسبيرغ يملكها رجل أبيض وكان معظم موظفيها من البيض. كان من عادة الموظفين في الشركة أن يأخذوا فرصة من العمل عند الضحى لشرب الشاي. وكما دوَّن في مذكراته، فإن الموظفة المسؤولة في الشركة اشترت كوبين مختلفين عن باقي الأكواب له ولزميله الأفريقي، وقالت لهما إن عليهما أن يستخدما هذين الكوبين تحديدا أثناء فرصة شرب الشاي، وهذه إشارة إلى أن باقي الموظفين البيض لا يريدون لهذين الأفريقييْن أن يستخدما الأكواب نفسها التي يستخدمونها هم. وعند حلول فرصة الشاي، أقدم الموظف الأفريقي الآخر، غور راديبي، على تجاهل التعليمات، فأخذ كوبا من أكواب البيض وشرب به، لكن مانديلا، الوسطي في تفكيره، كانت لديه فكرة أخرى. امتنع عن شرب الشاي كليا، وبذلك لم يغضِب أحدا، لا زميله الأفريقي ولا موظفي الشركة، وفي الوقت نفسه لم ينفذ تلك التعليمات المُهينة.
لقد استقطب مانديلا بهذه الوسطية والأخلاق الرفيعة وممارسته الإيثار في أقصى صوره، الناس من كل الأعراق إلى المؤتمر الوطني الأفريقي. لم يهتم لصغائر الأمور مطلقا بل ركز على القضايا المهمة. في اليوم الأول لدخوله المدرسة، أبدلت المعلمة، السيدة ميندغين، اسمه الأفريقي بآخر إنجليزي. فأصبح روهيلاهلا منذ ذلك اليوم نلسن. احتفظ بهذا الاسم ولم يغيّره لاحقا بحجة أنه مفروض عليه، بل اعتبره جزءا من تأريخه الإنساني، غير أنه من ناحية أخرى قاوم التمييز العنصري بكل شراسة وقوة.
اصبح مانديلا اسطورة رغم أنه لم يسعَ إلى ذلك بل كرر في أكثر من مرة أنه رجل كباقي الرجال، يخطئ ويصيب، بل وكتب في مذكراته أخطاءه وإخفاقاته بل واعترف بأنه مارس الكذب والغش في صباه لتمشية أموره أيام الحكم العنصري.
لم ينكر مانديلا فضل الآخرين عليه وقال إن ملهمه الأول كان وولتر سيسولو، صاحب المكتب العقاري في جوهانزبيرغ الذي ساعده في الحصول على عمل في شركة المحاماة، والمثقف دون دراسة أكاديمية. كما سجل في مذكراته التضحية التي قدمها له زميله في العمل، غور راديبي، حينما استقال من وظيفته كي يدفع الشركة إلى ترقيته.
تربى مانديلا في بيت أمير شعب الثمبو في إقليم ترانسكي، جونغينتابا دالينيبو، الذي تبناه في سن التاسعة بعد وفاة أبيه، ورباه كإبنه، وربما ساهم ذلك في حصول مانديلا على الفرص التي حصل عليها لاحقا كمواصلته للتعلم وحصوله على البكلوريوس التي قال إنه كان يعتقد أنها أساسية لأي إنسان يريد أن يصبح قائدا، غير أنه أدرك لاحقا أن بسطاء لم يدخلوا المدرسة كانوا أكثر دراية وخبرة منه.
بعد خروجه من السجن، انتخب مانديلا نائبا لرئيس المؤتمر الوطني الأفريقي، أوليفر تامبو، الذي استقال لاحقا كي يفسح المجال لمانديلا لترأُس الحركة. قاد مانديلا المفاوضات مع نظام الأقلية البيضاء ليؤسس عام ١٩٩٤ جمهورية جنوب أفريقيا الديمقراطية المتعددة الأعراق التي طالما حلم بإقامتها هو وأعضاء حركته. انتخب رئيسا للدولة عام ١٩٩٤ لكن موقعه الأول والأبقى كان في قلوب الأفارقة ومحبي الحرية و المساواة والديمقراطية في كل أنحاء العالم وربما لهذا السبب لم يسعَ لتجديد ولايته. غادر الدنيا بعد ٩٥ عاما من النشاط المتواصل، وحتى في السجن كان يمارس الرياضة صباح كل يوم معتبرا إياها طقسا دينيا، لكنه لن يغادر قلوب الملايين التي أحبته لتضحياته في سبيل القيم الإنسانية النبيلة وإيثاره الآخرين على نفسه في كل مراحل حياته.
حميد الكفائي