لم يعد خطاب الكثير من السياسيين العراقيين وطنيا، لسبب من الأسباب، فمعظمهم يتحدث عن طائفته ومنطقته وقوميته فقط دون الطوائف والمناطق والقوميات الأخرى. مثل هذا الخطاب أضر كثيرا بالوحدة الوطنية والاقتصاد الوطني والأمن الوطني والتماسك الوطني، ومع ذلك فإن الكثير من سياسيينا ما زالوا يتبنونه ويصرّون عليه، خصوصا أوقات الانتخابات، لأنهم يعتقدون بأنه مفيد لهم باعتبار أنه يجلب لهم الأنصار والأصوات.
إنهم بهذا التوجه يعتقدون بأن أبناء الشعب العراقي يفضلون الخطاب الجزئي (كي أتجنب استخدام مفردات مثل عنصري ومناطقي وطائفي)… أو أنهم يراهنون على مخاوف الناس من الآخر المعادي لهم أو الذي يُصوَّر لهم بأنه معادِ. إنني لأعجب من هذا الخطاب التمييزي التفريقي، فكيف يسمح المرء لنفسه أن يخاطب جزءا من شعبه وجزءا من وطنه مهملا الأجزاء الأخرى التي يفترض أنها عزيزة عليه أيضا؟
قد يتفهم البعض خطاب الأخوة الأكراد القومي باعتبار أنهم ربما يخططون لدولة قومية منفصلة، فهذا هو هدفهم منذ زمن بعيد، ولكن ما هي مشكلة باقي العراقيين من السنة والشيعة والتركمان والكرد خارج الإقليم ولماذا تحوّل خطابهم إلى خطاب تفريقي؟ هل يعتزمون هم أيضا أن يعيشوا منفردين؟ كيف يمكن أن يتجزأ العراق إلى أوطان صغيرة لإرضاء طموح هذا السياسي أو ذاك؟ أليس بالإمكان تحقيق الطموحات السياسية عبر خطاب وطني جامع للقوميات والطوائف والمناطق؟ ألا يمكن العراق أن يكون دولة قوية بكل أبنائه؟ ألم تعد لنا هوية وطنية جامعة نفتخر بها؟
القائد الحقيقي هو الذي يقود شعبه إلى الأمام عارضا عليه الأفكار النافعة التي ترفعه وتطور من حياته وتعزز من قدراته، وليس الذي يجزئه إلى طوائف ومناطق وأقوام كي يصل إلى القيادة عبر التمييز والتقسيم والتفريق. البلدان لا تبنى إلا بالمساواة والعدل والعمل الجاد على تطوير الاقتصاد وتوفير الخدمات. أوروبا تقدمت بعد أن نبذت العنصرية والتمييز وركزت على ما ينفع الناس الذي مكث في الأرض فعلا. وكذلك أمريكا أصبحت أقوى دولة في العالم عندما سارت على خطى سليمة وسعت إلى المساواة بين مواطنيها… وها هي اليوم يحكمها رئيس من أصل أفريقي، بينما تولى فيها أفارقة وعرب وأفغان وآسيويون مواقع متقدمة.
في أمريكا اللاتينية، وصل إلى الزعامة أشخاص من كل الأعراق والمناطق. رئيس الأرجنتين السابق لدورتين، كارلوس منعم، هو من أصل سوري، ورئيس الأورغواي الأسبق، عبد الله بو كرم، من أصل لبناني، والرئيس الذي تلاه، جميل معوض، هو الآخر من أصل لبناني، ورئيس بيرو السابق، البيرتو فوجيموري، ياباني الأصل، ورئيس تشيلي السابق، أوغستو بينوشيه، فرنسي الأصل… ورئيس فرنسا السابق، نيكولاي ساركوزي، هنغاري الأصل، وزعيم حزب العمال البريطاني الحالي، أد مليباند، المرشح لرئاسة الوزراء في الانتخابات المقبلة، هو من أصل يهودي بولندي…
العالم كله يسعى بخطى سريعة وحثيثة نحو التكامل والتلاحم وتجاوز الفروق العنصرية والطائفية والمناطقية، بينما يتبنى سياسيونا أفكارا تفريقية ويركزون عليها وينشرونها بين الناس. ليس المقصود كل السياسيين طبعا، فهناك من يتمتعون بخطاب وطني جامع. والأغرب من كل هذا أن بعض المفرِّقين يدعي التدين بينما هو غارق في الطائفية والعنصرية والمناطقية، فأين التدين من كل هذا؟ إنه مأزق حقيقي يجب أن ننقذ أنفسنا منه إن أردنا أن نحمي بلدنا ونعزز من قدراتنا تجاه الأعداء، وما أكثرهم هذه الأيام، في منطقة موبوءة بالمشاكل والصراعات على الصغائر والكبائر.
كان يجب أن يكون سياسيونا أكثر وعيا وحرصا على البلد ومستقبله والسلم الاجتماعي فيه، لكن الحقيقة ليست دائما كذلك، فأصبح الناخبون هم الأكثر حرصا وقلقا على مستقبل البلاد ووحدتها وتقدمها. لقد أصبح لزاما على الناخبين أن يضطلعوا بتغيير التفكير السياسي السائد عبر الإعراض عن انتخاب من يدعون إلى الطائفية والعنصرية والمناطقية، ونبذ الداعين إلى العنف والكراهية ولفظهم خارج مؤسسات الدولة بل وتشريع القوانين التي تحاكمهم وتُجرِّمهم. الأمل هو في تأسيس دولة عصرية تنصف جميع مواطنيها وتعاملهم على حد سواء كي يحرصوا عليها ويدافعوا عنها بنفس القدر والحماس.