دائما ما نسمع عبارات مثل (يجب أن نفعل كذا كي نضع بلادنا في مصاف الدول المتقدمة) وهي عبارة اعتاد الناس، خصوصا السياسيين منهم، على ترديدها دون التفكير في ما تعنيه في الحقيقة. بلدان العالم تسير بخطى مختلفة السرعة وبعضها يتقدم بسرعة صاروخية لأنه يمتلك التقنية الحديثة والمال والعلماء والخبراء والبنى الأساسية اللازمة لذلك، بينما البعض الآخر يتقدم بخطى بطيئة لعدم توفر المقومات اللازمة للتقدم. أما بعضها فيسير إلى الخلف كما في حالة معظم بلداننا…
فنحن أخذنا نفتقد خصائص ومزايا كانت متوفرة إلى عهد قريب وإحداها هي الأمان الذي افتقدته معظم مدننا هذه الأيام، ولا أقصد العراق فقط بل كل بلدان المنطقة إلا ما ندر. لقد كانت مدننا أجمل وشوارعنا أنظف وأطفالنا أذكى وكبارنا وشبابنا أكثر جدا واجتهادا وتواضعا من الآن. لقد كان كبارنا، ومعظمهم أمّيون، يقدّرون أن أبناءهم أكثر منهم فهما للأوضاع في العالم فيسألونهم ويتعلمون منهم. أما الآن فقد أصبح حتى البسطاء يعتبرون أنفسهم علماء وخبراء ويجادلون ذوي العلم بما ليس لهم فيه علم.
أتذكر أن أحد القادة السياسيين قد قال يوما في احتفال عام (يجب علينا أن نفعل كذا وكذا كي نوصل بلادنا إلى مصاف الدول النامية!)… وعندما انتهى من خطبته جلس إلى جانبي فسألته عماذا يقصد بالدول النامية؟ فقال (الدول المتقدمة طبعا)! فقلت له لكن (الدول النامية) ليست متقدمة بل هي متخلفة وقد اصطلح على تسميتها بالنامية لطفا بمشاعر سكانها من كلمة (متخلفة) التي قد تجرحها… فذهل الرجل من المعلومة (الجديدة) واتضح أن صاحبنا لم يكن يعرف حتى الفرق بين الدول النامية والمتقدمة. أما زعيم آخر (كبير جدا) فقد سارع للرد على سؤال كان موجها لي حول معنى (الديماغوجية) فقال إنها تعني (التعصب)! وفي جلسة أخرى تحدث هذا الزعيم (الكبير) عن (هيغل) و(فوكوياما) بما ليس فيهما وكان ذلك بحضور شخص كان قد ألف كتبا في هذين العالمين. أما زعيم آخر فقد هنأ المسيحيين بعيد الفصح (الذي استمد منه الفصح كما قال) وكان ذلك في عيد الميلاد.
الشاهد هنا أننا أحيانا نطلق عبارات لا نفقه معناها. فعندما نقول “إن علينا أن نوصل بلادنا إلى مصاف الدول المتقدمة” فنحن في الحقيقة نفترض أن الدول المتقدمة متوقفة عن النمو والتطور وأنها سوف تنتظرنا كي نلحق بها! لأنها لو كانت تتقدم بخطى معقولة، وهي بالتأكيد تتقدم بخطى أسرع مما سنسير به حتى لو سرنا بأقصى ما نستطيع لأنها دول متقدمة وقادرة على التقدم بخطى أسرع، فإننا لن نلحق بها يوما وهذه هي الحقيقة (المرة) التي علينا أن نعرفها. وهذه تركيا تحاول منذ بداية القرن الماضي أن (تلحق) بدول أوروبا لكنها لم تستطع بل ولم تُقبل عضوا في الاتحاد الأوروبي الذي تسعى إلى عضويته منذ عقود والسبب هو أن الدول الأخرى قد قطعت أشواطا بعيدة إلى الأمام ومن غير الممكن (اللحاق) بها.
السؤال هو لماذا نريد أن (نلحق) بهذا وذاك؟ أليس الأفضل لنا أن نتقدم بالخطوات التي نستطيع السير بها كي نخدم أنفسنا ونطور حياتنا بدلا من أن نحاول أن (نلحق) بفلان وعلان؟ ثم ما هو الهدف من (اللحاق) هذا؟ هل نحن في سباق مع آخرين كي نحاول أن نكسب الجولة؟ أم أننا نريد أن نتباهى ونتفاخر كعادة العرب القدامى بـ (إلحاق الهزيمة بالعدو)!؟
خذوا مثلا مدينة دبي التي تتقدم بطريقة مثيرة للإعجاب حتى في دول العالم المتقدمة أصلا كأمريكا واليابان والدول الأوروبية. والمتردد على هذه المدينة العالمية يلمس هذا التقدم عن قرب. ففي كل مرة أزور فيها دبي منذ زيارتي الأولى قبل عشر سنوات ، أجد فيها صروحا عمرانية جديدة ومخططات لمشاريع أخرى أجدها مكتملة في زيارتي الثانية. زرتها مثلا في عام ٢٠٠٩ وكانت هناك خطط لإنشاء مترو يربط أجزاء المدينة ببعضها وعندما زرتها عام ٢٠١١ وجدت المترو يعمل بكفاءة وسهولة تثيران الإعجاب، كما عرفت عن خطط أخرى لمشاريع ستنفذ في الأعوام المقبلة وقد رأيتها منجزة عندما زرتها عام ٢٠١٣. دبي الآن مدينة يلتقي بها رجال الأعمال والسياسيون والأكاديميون والمهنيون والسياح والعمال من كل أنحاء العالم لأسباب كثيرة. فهي تمتلك البنى والمقومات الأساسية الحديثة التي تبحث عنها المؤسسات والشركات والحكومات والجامعات وغيرها. وهي تقع في منتصف الطريق بين الشرق والغرب. وهي ميناء بحري وجوي مهم عالميا ونقطة التقاء للكثير من خطوط الطيران العالمية.
هناك خطة مدروسة للدور الذي أراده لها مخططو دبي ومديروها وهناك بالتأكيد مدن منافسة لها وهي فعلا في سباق مع هذه المدن في دول أخرى (ليست عربية) والتي لم تستطع (اللحاق) بها لأن مخططي دبي فاقوا الآخرين قدرة وإمكانيات وبعد نظر اقتصادي. البصرة مثلا لن تلحق بدبي، كما يتوهم البعض، حتى بعد عقود من الإعمار والاستثمار لأن دبي لن تتوقف عن التطور كي تلحق بها البصرة التي بإمكانها أن تجد لها موقعا آخر وهي قادرة عليه إن توفرت لها الإمكانيات والإدارة الناجحة.
نعم (اللحاق) مطلوب إن كنا نتسابق ونتنافس مع دول أخرى، لكننا لسنا في هذا المضمار وما نريده هو أن نحقق الحد الأدنى من العيش الكريم. فنحن لم نحقق حتى الأمان الذي تتمتع به معظم دول العالم فكيف بنا أن (نلحق) بدول أخرى؟
لذلك علينا أن نتقدم من أجل خدمة أنفسنا وأجيالنا المتعاقبة وليس من أجل (اللحاق بركب الأمم المتقدمة) فنحن لن نستطيع اللحاق بها لأنها تتقدم بخطى سريعة منذ تسارع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر الميلادي، في وقت نحن نتقدم فيه ببطء أو نتراجع.