نحن شعب نستمتع بتبديد الطاقة الكهربائية فنبقي جميع الأضواء والمراوح والمكيفات مفتوحة حتى عندما لا نحتاجها. وطالما رأينا أضواء المنازل والأماكن العامة، حتى الخارجية منها، مشتعلة في النهار أو آخر الليل، وعندما نستفسر عن سبب هذا التبذير يقال لنا (إنها الكهرباء الوطنية!) بمعنى “لا يهم لأن الطاقة المستهلكة تأتي من الكهرباء الوطنية” وكأن (الوطنية) معينٌ لا ينضب من الطاقة الكهربائية ولا تأتي من مولدات تستهلك الوقود ويشغِّلها عمال ويشرف عليها خبراء وفيها مكائن عملاقة تحتاج إلى صيانة متواتصلة وتُستهلَك كلما ازدادت قابليتها على الإنتاج… ينسى بعضنا أو يتناسى أن مستهلكين آخرين يمكن أن يستفيدوا من الطاقة لو لم نبذرها.
لن تُحَل أزمة الكهرباء في بلادنا حتى نتعلم أن واجبنا الأخلاقي والوطني والديني والإنساني والبيئي يحتم علينا الحفاظ على الطاقة. لن تُحل أزمة الطاقة أو الماء أو النظافة أو الصحة أو التعليم أو أو… حتى يشعر أحدُنا بذنبٍ عندما يشعل ضوءا دون حاجة وعندما يستخدِم الماء في غير مواضعِه، خصوصا الماء المعد للشرب الذي يستخدمُه البعض في سقي الحدائق ورش الشوارع والباحات العامة والخاصة. هذا الماء معد للشرب وقد عومل بالكلور والمواد المعقمة الأخرى وهذه مكلفة بينما تستهلك التنقية وقتا وجهدا من مؤسساتنا العامة.
لن تُحل الأزمات حتى نتوقف عن رمي النفايات، حتى الصغيرة والنظيفة منها مثل القناني والأوراق، في غير الأماكن المخصصة لها، وحتى نحرص على الممتلكات العامة والجدران والأعمدة والأضواء والأرصفة والشوارع حرصنا على ممتلكاتنا الخاصة.
في البلدان الأخرى يستجيب الناس للتعليمات الصادرة من السلطات والمؤسسات ويتوقفوا عن استخدام المياه مثلا عندما تصدر تعليمات بالتوقف عن استخدامها في سقي الحدائق عند توقع شحة تحصل أحيانا في فصل الصيف. والشيء نفسه ينطبق على الطاقة الكهربائية وباقي الممتلكات والخدمات والمرافق العامة. فلماذا نتجاهل التعليمات العامة والإرشادات التي وُجدت لخدمتنا نحن بينما نتشدق بأننا نحمل أخلاق الأنبياء والأئمة والأولياء والصالحين؟ لقد بُحت أصوات المسؤولين ورجال الدين في المطالبة بترشيد الطاقة الكهربائية دون استجابة تذكر من كثيرين منا.
ولكن هل بالإمكان حقا تغيير ثقافة عامة مؤسسة منذ مئات السنين بمجرد تقديم النصائح والإرشادات والوعظ الديني؟ ليس ممكنا بالتأكيد. إذن علينا أن نجد وسيلة أخرى للحفاظ على الطاقة الكهربائية في فصل الصيف الذي نحتاجها فيه أكثر من أي وقت آخر.
عشت في السودان لأكثر من عام عندما عملت في الأمم المتحدة قبل سنوات، وهذا البلد الشاسع المترامي الأطراف الذي يعيش فيه أكثر من أربعين مليون إنسان لا يعاني من نقص الطاقة الكهربائية كما هو حالنا نحن البلد الغني بكل شيء. فقد أُنشأت مولدات كهرومائية عملاقة تمكنت في من سد النقص. ولكن السبب الحقيقي وراء كفاية الطاقة الكهربائية في السودان ليس تمكن البلد من إنتاج كفايته من الطاقة بل بطريقة التوزيع المبتكرة.
طريقة التوزيع تتلخص بالتالي: كل مواطن يحصل على قدر معين من الطاقة بأسعار مدعومة وهذا يكفي العائلة العادية لمدة شهر لتشغيل الأضواء والمرواح والثلاجات وباقي الأجهزة الضرورية. ولكن في ما بعد ذلك فإن على المستهلك أن يشتري الطاقة من داوئر الكهرباء المنتشرة في المدن والأحياء والتي تعمل على مدار الساعة.
العدّادات هناك الكترونية وعندما تشتري الطاقة من دائرة الكهرباء تُعطى رقما معينا فتدخله في العداد المنصوب في البيت وعندها تعود الكهرباء لتعمل حسب الحاجة وحتى انتهاء الكمية المشتراة لتنقطع مرة أخرى. بهذا تمكن السودانيون والنيجيريون وشعوب كثيرة أخرى من ترشيد استخدام الطاقة ومنع المتجاوزين من إهدارها دون حاجة ماسة إليها.
في العراق نحن في أمس الحاجة إلى نظام كهذا، يمنع المتجاوزين ويعودُّنا جميعا على عدم هدر الطاقة وتلويث البيئة واستهلاك الأجهزة والمعدات الكهربائية بسبب كثرة الاشتغال. نحن بحاجة إلى نظام توزيع يكافئ الُمرَشِّدين والمقتصدين ويعاقب المبذرين والمتجاوزين كالنظام المعمول به في السودان ونيجيريا.
في خلاف ذلك لن تُحل أزمة الطاقة حتى لو تضاعف عدد مولدات الطاقة الكهربائية العملاقة في العراق. ثقافتنا لا تتغير إلا عندما نشعر أن ممارساتنا وعاداتنا تكلِّفنا أموالا باهظة اجتهدنا في كسبها، عندها سيضطر معظمُنا إلى ترشيد الاستهلاك والمحافظة على الطاقة وعندها فقط ستتوفر الكهرباء للجميع وسوف تتقلص ساعات القطع الحالية أو تنتهي كليا.