وأخيرا فاز الفريق عبد الفتاح السيسي بانتخابات الرئاسة المصرية، وهو فوز لم يفاجئ أحدا، فالمزاج العام المصري الرافض للأخوان كان مؤيدا لمجيء حاكم قوي بعد تجربتهم الفاشلة، وليس هناك أقوى من القائد العسكري الذي أسقط حكم الأخوان.
استطلاعات الرأي أشارت إلى فوزه حتى قبل ترشحه، وكان التحدي الذي واجهه منافسه الوحيد، حمدين صباحي، هو البرهنة على أن ترشحه لم يكن لإعطاء الانتخابات الرئاسية الشرعية التي تفتقدها بسبب غياب المنافسة الحقيقية.
فاز السيسي بنسبة قاربت ٩٧٪ وهي نسبة غابت عن الساحة السياسية العربية منذ غياب مبارك وصدام وبن علي والقذافي. إنها نسبة لن تتكرر مستقبلا لأي رئيس عربي حالي أو مقبل، وحتى الرئيس السوري بشار الأسد الذي “اكتسح” الشارع السوري في الانتخابات الرئاسية السورية الأخيرة التي جرت وسط معارك ضارية بين نظامه والجماعات المسلحة، لم يحصل إلا على ٨٨٪ فقط!
ولكن هل حصل السيسي على هذه النسبة فعلا أم أن هناك تزويرا لآراء الناخبين جرى على نطاق واسع كما كان يحصل في البلدان العربية؟ نظرة متفحصة لآراء الشارع المصري في الفترة التي سبقت الانتخابات تؤكد أن معظم المقترعين، البالغ عددهم ٢٥ مليونا، قد صوتوا فعلا للفريق السيسي وهؤلاء هم في الحقيقة خصوم الأخوان المسلمين الذين أيدوا الإطاحة بحكمهم بالقوة، ومعظمهم لم يسمع بالسيسي من قبل لكنهم منحوه ثقتهم بعد أن أقدم على مغامرة الإطاحة بالأخوان عسكريا. إلا أن العدد الأكبر من الناخبين وهم ثلاثون مليونا، قد قاطعوا الانتخابات.
معارضو السيسي لم يصوتوا أصلا ولم يعترفوا بالانتخابات بل اعتبروها تجاوزا على “الشرعية”، بينما أعرضت نسبة كبيرة من الشباب عن التصويت بسبب الإحباط وخيبة الأمل لما آلت إليه الأوضاع في مصر وعودة العسكر إلى الحكم من الشباك بعد أن خرجوا من الباب في ٢٥ يناير ٢٠١١.
لقد كان المصريون يتطلعون إلى قيام ديمقراطية حقيقية تشارك فيها أحزاب ديمقراطية لديها برامج انتخابية عملية، لكن هذا الحلم الديمقراطي اختطفه الأخوان وتمسكوا بالسلطة رافضين إجراء انتخابات مبكرة لإعطاء المصريين أملا بديمقراطية حقيقية، بل أصروا على “الشرعية”، فدفعوا بتعنتهم هذا ملايين المصريين لأن يهبوا ضدهم في الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ ما دفع الجيش لانتهاز الفرصة وسقاط حكم الأخوان بالقوة.
ما زال مصريون كثيرون متمسكين بهذه “الشرعية”، وكأن الزمن قد توقف عند انتخاب محمد مرسي، متوهمين أن للأخوان الحق في حكم مصر رغم أنوف غالبية شعبها وحتى بعد اتضاح حجم المعارضة الشعبية لحكمهم. والحجة التي يسوقونها هي أن الرئيس الأخواني حصل على ١٢ مليون صوت في انتخابات ٢٠١٢ من مجموع خمسة وخمسين مليون، متناسين أن معظم الذين صوتوا له قد غيَّروا رأيهم فيه بعد أن جربوا أداءه في السلطة.
الشعبية التي يتمتع بها السيسي اليوم وقتية ولن تدوم طويلا لأن المصريين سيعودون للمطالبة بحقوقهم وأولها إقامة دولة عصرية تجلب الرخاء والعدل والحريات لكل مواطنيها. أمام السيسي فرصة تأريخية كي يحقق لشعبه ما لم يحققه الذين سبقوه في الحكم، من رخاء وديمقراطية حقيقية، فإن وقع في فخ الاستحواذ على السلطة والتمسك بها حتى بعد انحسار شعبيته، الذي سيحصل إن عاجلا أم آجلا، فإنه سيضيع هذه الفرصة على المصريين. السلطة لا تدوم لزعيم مهما فعل، لكن سر استمرارها طويلا يكمن في النجاح في إدارة الاقتصاد وصيانة الحقوق الأساسية.
الإسلاميون في تونس تخلوا عن السلطة عندما شعروا أن شعبيتهم بدأت تنحسر فخففوا من استياء الناس منهم ومددوا من عمر بقائهم في العملية السياسية. الشعوب العربية لن تسكت في المستقبل على ظلم أو فشل سياسي حتى وإن كان باسم الدين الذي يحظى باحترامهم وتعاطفهم. وهي وإن صوتت للإسلام السياسي ومنحته الفرصة في بعض البلدان، فإنها لن تغفر للإسلاميين ما لا تغفره لغيرهم، فالقدسية التي ساعدت الإسلاميين في الوصول إلى الحكم لا يمكن أن تستمر طويلا لأن الفطرة الإنسانية تجنح دوما إلى جانب العقلانية والمصلحة بعد هدوء الفورات العاطفية.
في العراق، فهم الإسلاميون بعد تجربة متعثرة لعدة سنوات إنهم بحاجة لأن يحكموا لصالح جميع المواطنين وقدَّروا أن هناك جزءا من الشعب لا يتفق معهم خصوصا في ما يتعلق بالقيود التي تفرضها أيديولوجيتهم الدينية على الناس، فقرروا استيعاب الجميع والسماح بالحريات العامة والخاصة، كما قلصوا من خطابهم الديني حتى أنهم أبدلوا برامج أحزابهم، بل وحتى أسماءها، كي تكون أقرب إلى الواقع بدلا من التحليق في عالم الغيبيات والمثالية الذي سيقودهم حتما إلى البراري السياسية، ولو بعد حين.
الإيرانيون أيضا فعلوا الشيء نفسه، فالرئيس البراغماتي الحالي حسن روحاني، الذي يتفاوض اليوم مع الأوروبيين والأمريكيين ويؤمن بالتنازلات والحلول الوسطى، ليس كالرئيس المتشدد محمد علي رجائي عام ١٩٨١، أو الرئيس الأكثر تشددا، محمود أحمدي نجاد عام ٢٠١٣ الذي نجح في أمر واحد هو زيادة العزلة الدولية على إيران.
عصر الأيديولوجيات، الوضعية أو الدينية، انتهى بعد فشلها في إدارة الدول وتلبية طموحات الشعوب وحاجاتها الأساسية في الحرية والحياة، وبدأ عصر التعايش والتعددية والقبول بالآخر المختلف.
يحاول عبد الفتاح السياسي اقتفاء أثر عبد الناصر والاستفادة من شعبيته التي فاقت ما تمتع به زعماء كثيرون، لكنه سيكتشف أن الزمن قد تجاوز العصر الذي يحظى فيه الزعيم بـ (حب) الناس جميعا… سوف ينجح إن غادر الزمن القديم وعاش في زمنه، وأدرك أن الذين أيدوه اليوم سيغيرون آراءهم بعد حين وفقا لأدائه في السلطة وقدرته على تنمية الاقتصاد وصيانة الحقوق والحريات.