الصباح البغدادية…. آذار 2006
كنت أعتقد أن بالإمكان تبني النظام الديمقراطي في أي بلد في العالم مرة واحدة ودون مقدمات، وكنت أرى أن الشعوب على مختلف ثقافاتها وتجاربها البشرية ترحب بالديمقراطية وتسعى إلى المحافظة عليها لأن لها فيها مصلحة وكرامة وازدهارا، إلا أن التجربة تشحذ المعرفة وتغير النظرة إلى الأمور، وكانت تجربة العراق خلال السنوات الثلاث المنصرمة غنية جدا ومن لا يستفيد منها لن يستفيدمن أي شيء، لم تتغير قناعاتي المبدئية لكن كيفية الوصول إلى الهدف قد تختلف من بلد لآخر ومن ثقافة لأخرى.
كثيرا ما نتحدث هذه الأيام عن الاستحقاق الانتخابي وأنه يجب أن نتمسك به لأنه يعكس الرغبة الشعبية وإرادة الشعب العراقي، إلا أننا ننسى الاستحقاقات الأخرى في البلاد وهي الاستحقاق الأمني والاستحقاق الوطني والاستحقاق الاجتماعي، كما أننا ننسى أن الإجماع الوطني لا يتعارض مع الديمقراطية بل يعززها.
في العراق الديمقراطية لا تزال وليدة ولن تستمر وتقوى دون رعاية وهذه الرعاية لن تكون كاملة إلا إذا شارك فيها الجميع. يجب أن يعلم المطالبون بالاستحقاق الانتخابي، إن كانوا فعلا ديمقراطيين، أن يعلموا أن الديمقراطية في العراق لن تتعزز إلا بمشاركة كل القوى السياسية الرئيسية في الحكومة المقبلة. بذلك فقط يمكن للتيارات السياسية أن تحافظ على وجودها.
الإنسان العراقي، بعد معاناته الطويلة في ظل نظام صدام حسين، أصبح في أمس الحاجة إلى كل شيء: إلى الخدمات والوظائف والتدريب والسفر والترقية والتعليم والصحة وقد تستخدم هذه الحاجات الأساسية “لإقناعه” من قبل القائمين عليها ديمقراطيا بالانضمام إلى أحزاب الحكومة وهذا يعني أنه، وبعد أربع سنوات من “الإقناع” الحثيث، سيكون الشارع العراقي “مقفلا” في وجه التيارات السياسية الأخرى مما يعني أن الانتخابات المقبلة لن يخوضها باطمئنان إلا الأحزاب المشاركة في الحكومة التي ستتحدث عن إنجازاتها وما حققته للشعب العراقي المحتاج إلى كل شيء خلال فترة حكمها. الديمقراطية تحتاج إلى بيئة خصبة ومواتية كي تنشأ وتترعرع وهذه البيئة في بداية تطورها في العراق وتحتاج إلى وقت كي تتطور وهي تحتاج إلى ديمقراطيين حقيقيين ومشاركة من تنوعات المجتمع العراقي السياسية والدينية والقومية.
إن إصرار البعض على تجاهل مكون أساسي من مكونات المجتمع العراقي السياسية يعني، عن قصد أو دون ذلك، وأدا للديمقراطية في المهد وتسليم البلاد إلى قوى معينة بعضها غير مؤمن أساسا بالديمقراطية. كنت قبل أيام في برنامج حواري على إحدى القنوات التلفزيونية وكنت أحاور شخصية سياسية وفكرية عراقية ولكن مغتربة، وكانت هذه الشخصية مصرة على ”الاستحقاق الانتخابي” وسبب هذا الإصرار طبعا هو الالتزام النظري بالأسس الديمقراطية المعمول بها في البلدان الغربية التي ترسخت فيها الديمقراطية عبر مئات السنين من الممارسة العملية، لكن تطبيق النظرية بمعزل عن الواقع لا يكفي، فنحن الآن نعيش وضعا استثنائيا في العراق من انعدامٍ للأمن واختلالٍ في المجتمع وتغيرٍ كبير في مرتكزاته الفكرية والاقتصادية والسياسية، وهذا الوضع الاستثنائي والتغير البنيوي الهائل يتطلب مشاركة للجميع في الحياة السياسية العراقية ورعاية مشتركة للديمقراطية حتى يكون الجميع موجودا وأن “لا تقسّم الغنائم على الفائزين” مثلما يريد البعض.
قد يكون حسن الظن أمرا جميلا ومن الأخلاق المطلوبة اجتماعيا، لكن أثره في السياسة قد يكون أبديا ومدمرا لذلك يجب أن يصر العراقيون ومن كل التيارات السياسية الفائزة والخاسرة على حكومة الوحدة الوطنية الممثلة لكل شرائح المجتمع السياسية، حكومة تحمي حقوقنا وحرياتنا جميعا وتسمح لنا جميعا بالتفكير الحر والتقييم الموضوعي والمراقبة المتأنية لأداء الأحزاب والتيارات السياسية وقد تتغير قناعاتنا بعد أربع سنوات كليا أو جزئيا، لكن هذا التغير في القناعة سيكون طوعيا وبإرادتنا وليس عبر الحاجة إلى الانتماء إلى هذا الحزب أو ذاك بهدف الحصول على مكاسب شخصية مؤقتة. يجب أن لا ننسى تجربة حزب البعث الذي انفرد بالسلطة واضطر الناس جميعا أما إلى الانتماء إليه أو مسايرته أو مقارعته بالسلاح والاحتراق بناره، يجب أن نتخلص كليا من ثقافة البعث والحزب الواحد والقائد الضرورة وضرورة التوحد خلف القائد المنصور “لأن المرحلة تتطلب ذلك”. مخطئ من يتوهم أن سياسيي اليوم غير متأثرين بثقافة الماضي، بدرجات متفاوتة طبعا، وكثيرون منا لا يدركون أنهم متأثرون أما بنمط تفكير معين أو ممارسة معينة أو سلوك أو حتى لغة كانت سائدة سابقا، لقد دفنا البعث في مزبلة التاريخ ويجب أن ندفن معه بقاياه كلها ولا نسمح بعودة ثقافته بأية طريقة كانت. السعي نحو الإنفراد بالسلطة في عراق اليوم أمر خطير يجب أن نقف بوجهه بقوة أيا كانت الجهة التي تسعى له، فالديمقراطية لن تنمو في بيئة إنفرادية ثأرية متشنجة بل في بيئة متنوعة متسامحة حرة.