منذ مطلع القرن الماضي وشارع المتنبي يستقطب المثقفين والكتاب والشعراء والفنانين كل يوم جمعة للتجمع من أجل الثقافة والفن والأدب… وقد اعتاد المثقفون العراقيون في بغداد والمحافظات الأخرى والزائرون من البلدان الأخرى على الذهاب إلى هذا الشارع صباح كل جمعة مهما ساءت الظروف الجوية أو الأمنية أو الاقتصادية أو السياسية. ولم يسلم هذا الشارع من شر الإرهابيين خلال الأعوام الإثني عشر الماضية فقد تعرض للتفجير عدة مرات كان أشهرها تفجير عام ٢٠٠٧ الذي دمر الشارع وترك عشرات القتلى والجرحى من الأبرياء بينهم أبناء صاحب مقهى الشابندر الشهير، الحاج محمد الخشالي… إلا أن الشارع أعيد بناؤه وأصبح يعج بالمثقفين والمهتمين بالثقافة من جديد وبكاميرات المحطات الفضائية والأرضية التي وجدت فيه وفي رواده مادة خصبة ومجانية تملأ بها شاشاتها طوال الأسبوع.
الجديد في شارع المتنبي هو الأعداد الهائلة من المرتادين من خارج الوسط الثقافي، فلم يعد هذا الشارع المترامي الأطراف يتسع لمرتاديه بل لا تكاد تستطيع المرور فيه بسبب الأعداد الغفيرة من المواطنين والسياح الذين جاءوا لأغراض مختلفة. فالمظاهرات الاحتجاجية انتقلت من ساحة التحرير أو الفردوس إلى شارع المتنبي، فلا يكاد أسبوع يخلو من اعتصام او مظاهرة احتجاجية تجوب الشارع بصخب لم يألفه هذا الشارع الهادئ الجميل الأنيق. والسياسيون هم الآخرون بدأوا يرتادونه لأسباب سياسية خصوصا في المواسم الانتخابية، والسياسيون، والمسؤولون منهم تحديدا، لا يأتون فرادى بل يرافق كل واحد منهم العديد من المرافقين المسلحين، كل حسب أهميته، فأحيانا يمتلئ الشارع بالمسلحين العسكريين بسب وجود مسؤول كبير فيه ذلك اليوم. ومن مزايا الشارع هو الأمان فلا يدخله أحد دون تفتيش بل لا يدخل أحد المركز الثقافي أو مبنى القشلة أو مركز المدى دون تفتيش آخر خوفا من تسلل الإرهابيين الذين يزعجهم أي مظهر إنساني مدني فيحرصون ويبتكرون الطرق من أجل تخريبه وهذا هو قدرنا أن يكون بيننا مخربون معادون للحياة.
والمشكلة التي يعاني منها رواد هذا الشارع المهم هي عدم وجود أماكن استراحة لائقة، فباستثناء مقهى الشابندر الصغير الذي لم يعد بالإمكان الحصول على مقعد فيه قبل الساعة الثانية بعد الظهر بسبب كثرة المرتادين خصوصا ممن اعتادوا على تدخين النارجيلة الطاردة لكثير من الناس من أمثالي ممن لا يطيقون رائحة الدخان أو منظره. وهناك أيضا فناء “القصيرية” الذي لا مجال فيه هو الآخر قبل الساعة الثانية أو الثالثة بعد الظهر… ومما يزيد الطين بلة هو أن باعة الكتب احتلوا مساحات واسعة من الشارع نفسه ولم يكتفوا بمحالهم والأرصفة المجاورة لها بل نشروا كتبهم وسط الشارع مما قلل من المساحة المتاحة للمارة. أما شارع السراي الضيق الرابط بين جسر الشهداء وشارع المتنبي فقد أصبح المرور فيه شبه مستحيل بسبب ضيقه أولا وتمدد نشاطات المحال التجارية إلى المساحة الضيقة المتاحة للمارة ثانيا وكثرة المارة ثالثا.
كان بإمكان أمانة بغداد أو عدد من المستثمرين أن يستثمروا في هذا الشارع ويشيدوا فيه أو قربه المطاعم والمقاهي والحدائق التي ستستقطب إليه المزيد من الرواد والسياح وتجعل رواده الحاليين يمضون فيه أوقاتا أكثر متعة وساعات أطول بدلا من ساعتين أو ثلاث كحد أقصى حاليا خصوصا مع عدم وجود مرافق عامة ودور استراحة. أمر لافت للنظر ألا يستقطب هذا الشارع المستثمرين في مجال الخدمات خصوصا وأن هناك مساحات شاسعة فيه وفي الشوارع المتفرعة منه، خصوصا على ضفاف نهر دجلة قرب تمثال المتنبي، فارغة حاليا ويمكن أن تُنشأ فيها مقاهٍ أو مطاعم أو محال تجارية مرتبطة بنشاطات الشارع الثقافية.
لقد حُرم الكثير من هواة الكتب والثقافة من المرور في هذا الشارع والاستمتاع بأجوائه بسبب هذا الصخب والاكتظاظ غير المبرر وغير الضروري. فليس هناك تنظيم داخل هذا الشارع وبإمكان الباعة أن يغلقوه ببضائعهم حتى لو كانت كتبا أو مواد ثقافية دون أن يمنعهم أحد. أمانة بغداد مدعوة لأن تكون حاضرة فيه من أجل تنظيمه وردع المتجاوزين على المساحات المخصصة للمارة وكذلك للاستثمار من جديد في هذه المنطقة المهمة بعد أن استثمرت فيه في الماضي وأعادت بناءه وتأهيل مباني القشلة والمركز الثقافي البغدادي في زمن المحافظ السابق صلاح عبد الرزاق الذي يسجل له أنه اهتم بالشارع ومرتاديه أكثر ممن سبقه.