مجلة الهدى: كانون الثاني 2015
لا أعتقد أن هناك شعبا أكثر اهتماما من العراقيين باكتساب الشهادة الجامعية، وهذه حالة إيجابية إذا ما بقيت ضمن حدود المعقول، خصوصا وأنها تتعلق باكتساب العلم والمعرفة وينتج عنها اتقان للعمل وفوائد للمجتمع والبلد. لكن الذي جعل هذا الاهتمام المفرط بها سلبيا هو أننا جعلناها المقياس الوحيد للكفاءة والتعيين في مؤسسات الدولة وهذا خطأ فادح يجب تصحيحه في أول فرصة ويا حبذا لو كان ذلك خلال حكومة الدكتور حيدر العبادي، الذي يعرف قبل غيره، كونه عمل في الغرب لعقود من الزمن، أن الشهادة الأكاديمية ليست ذات أثر هام في الإبداع أو اتقان العمل، وكثيرون منا درسوا أشياء في الجامعة لا يتذكرونها مطلقا الآن بل ولا تمس وظائفهم ومهامهم الحالية.
لا يهتم الغربيون للشهادة مطلقا ولا أتذكر أنني اضطررت يوما أثناء عملي الطويل في المؤسسات الغربية في بريطانيا وأمريكا ثم الأمم المتحدة، لإبراز شهادتي، بل حصل العكس، إذ أحرجني أحد المسؤولين بعد أن تفحص سيرتي الذاتية “متى اكتسبت خبرة عملية وقد أمضيت كل هذه السنين في الدراسة”؟ فاضطررت إلى توضيح الأمر وإخباره أنني كنت أعمل حتى أثناء الدراسة الثانوية، وكانت دراستي دائما في المساء أو بدوام جزئي في الصباح. وعندما أصبحت محاضرا في الجامعة في بريطانيا قبل سنوات، سألتني الإدارة سؤالا عابرا عن شهادتي وكان جوابي هو أن عليهم أن يبحثوا عنها في سجلات الجامعة لأنني تخرجت من الجامعة نفسها!
رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، جون ميجور، لم يحصل على شهادة الدراسة الثانوية، رغم أنها إلزامية في بريطانيا، لكن الالزام يقتصر على الحضور وأداء الواجبات اليومية وليس بالضرورة النجاح. أي أن الطالب ينتقل من صف لآخر حتى لو كان أداؤه دون المستوى المطلوب ولا يتخلّف عن أقرانه في سنة الدراسة كما يحصل في مدارسنا. ولهذا فإن صفوف الدراسة الابتدائية والثانوية في بريطانيا تصنف حسب أعمار التلاميذ وليست المراحل التعليمية، فيشار إلى التلميذ أنه في “السنة التاسعة أو العاشرة”، وليس في “الصف الخامس أو السادس” كما يحصل في مدراسنا. التلاميذ في الصف الواحد هم من عمر واحد وليس بالضرورة من مستوى معرفي واحد.
والمعروف أن جون ميجور هو من خبراء الاقتصاد الماهرين إذ أمضى سنين طويلة وزيرا للضمان الاجتماعي ثم الخزانة ثم المالية في الثمانينيات، وبعدها تولى رئاسة الوزراء عام 1990 لسبع سنوات حتى مجيء توني بلير عام 1997. رفض جون ميجور أن تنضم بلاده إلى منطقة اليورو عندما كان وزيرا للمالية، وأشار حينها إلى أن الأسس التي تقوم عليها هذه العملة قلقة وأن هذا الخلل سيظهر للعيان لاحقا. وقد تحققت نبوءة ميجور، غير الحائز على الشهادة الثانوية، بل فاق بخبرته كل حملة الدكتوراه في الاقتصاد والمال، إذ عانت اليورو من أزمات ومصاعب جمة قبل أن تستقر، ولم ينقذها منها سوى قوة الاقتصاد الألماني وإصرار الألمان والفرنسيين على المضي قدما في مشروع الاتحاد الأوروبي الاقتصادي والسياسي مهما كلفهم ذلك من ثمن.
وقبل جون ميجور كان جيمس كالاهان، وزير الداخلية ثم المالية ثم رئيس الوزراء البريطاني في السبعينيات، هو الآخر لم يحمل أي شهادة لكنه كان خبيرا بارعا في الشؤون المالية والسياسية ومن أكثر السياسيين الذين اهتموا بالتعليم في بريطانيا وفي عهده أُنشئت عشرات الكليات التقنية (بوليتكنِكس) والتي ساهمت كثيرا في رفع قدرات الشعب البريطاني وتأهيله للعب دور مهم في الاقتصاد العالمي وكان الطلاب فيها يتخرجون حاملين شهادات الدبلوم العالي أو شهادات مهنية وحرفية أخرى ولم تهتم تلك الكليات لإصدار الشهادات الرنانة كالبكالوريوس والماجستير والدكتوراه إلا لاحقا بعد تحولها إلى جامعات عام 1990، ومن بينها جامعتا و”يستمينيستر” و”ساوث بانك” في لندن اللتان تعتبران من الجامعات المميزة حاليا.
وفي بلداننا العربية لم يحصل الأديب المشهور وصاحب مدرسة “الديوان” في الأدب العربي، عباس محمود العقاد، على أي شهادة سوى الابتدائية! بل رفض كل الشهادات التي أُغدقت عليه لاحقا، لكن افتقار العقاد إلى الشهادة لم يمنعه من أن يصبح كاتبا وشاعرا ومترجما يشار إليه بالبنان، ويؤسس، مع شريكيه عبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني، مدرسة مستقلة في الأدب العربي أصبحت الآن تُدرَّس في الجامعات العربية والغربية، كما لم يمنعه من أن يصبح عضوا في البرلمان المصري.
خلاصة القول إن الهوس بالشهادة الذي نراه اليوم في العراق غير مبرر بل هو ضار في الحقيقة، لأنه يأتي على حساب الإبداع والخبرة وإجادة المهنة، وإن الذي يغذيه هو الإصرار الرسمي على مكافأة صاحب الشهادة دون أخذ الخبرة والابداع واتقان العمل بنظر الاعتبار. نعم الدراسة الأكاديمية مهمة ويجب أن تكون معيارا بين المعايير الأخرى لتقييم المتقدم لنيل الوظيفة، سواء كانت عامة أو خاصة، ولكن يجب ألا تكون المعيار الأول والأخير، لأن ذلك جعل كثيرين يسعون لنيل الشهادة فقط عبر أي وسيلة، ومن هنا نشأت العديد من الجامعات الخاصة في العراق وبلدان أخرى وكان دافعها الأول والأخير هو منح الشهادات التي تؤهل أصحابها للعلاوات والترقيات، وما أكثر حملة الشهادات الذين لا تقترن شهاداتهم بالمعرفة أو الخبرة أو الأداء المميز.
والمحزن حقا أن الهوس بالشهادة قد امتد إلى العلاقات الإنسانية إذ تمتنع الكثير من العائلات من تزويج بناتها لأشخاص لا يحملون شهادات جامعية! كما يمتنع شبّان وشابات عن الزواج ممن لا يحمل شهادة. دعونا نتخلص من هذا الهوس عبر تغيير نظرتنا إلى الأشياء، ولنبدأ بتعديل القوانين لجعل الخبرة والثقافة والمعرفة والسجل المهني الأساس في تولي الوظائف وليس الشهادات فقط، التي ربما لا علاقة لها بطبيعة العمل الذي يؤديه الموظف.