مجلة الهدى- شباط 2015
الضائقة المالية التي يمر بها العراق مؤذية دون شك لكنها ستكون درسا لنا في الاقتصاد إن كنا فعلا ما زلنا بحاجة إلى الدروس طيلة هذه العقود من عمر الدولة العراقية المديد. العراق اعتمد على النفط منذ الستينيات من القرن الماضي وما كان عليه أن يفعل ذلك لأنه فيه مخاطرَ جمة أولها الاتكالية والكسل ثم الفساد والدكتاتورية والتراجع الاقتصادي. الاقتصاد الريعي ينفع الأنظمة الدكتاتورية فحسب لأنه يوفر لها المال الذي تستخدمه في الإنفاق على التسلح وأجهزة القمع ثم الرعية التي عليها عندئذ أن تطيع ولي الأمر حتى لو كان شخصا كصدام حسين وأفراد عائلته من أمثال علي كيمياوي ووطبان وبرزان وعدي وقصي.
العراق لا يحتاج حقا إلى النفط لأنه بلد يمتلك إمكانات واسعة ولا أريد هنا أن أكون تبسيطيا كما فعل أحد المسؤولين الاقتصاديين رفيعي المستوى ذات يوم عندما قال في معرض توصيفه للاقتصاد العراقي (العراق بلد فيه نهران هما دجلة والفرات! وفيه أراض خصبة! ومحاط بدول كبيرة كإيران وتركيا والسعودية وسوريا ولديه الشمس الساطعة والمناخ المعتدل) أي والله هذا ما قاله ذاك المسؤول (الاقتصادي) الرفيع!!! نعم لا اريد أن أكون تبسيطيا لأن التبسيط معيب على أي شخص بالغ ناهيك عن شخص يدعي بعض المعرفة، وهو مخصص لتلاميذ المدراس الابتدائية فقط. الاقتصاد الريعي لا يليق ببلد كالعراق يمتلك كل هذه الامكانيات واهمها الامكانيات البشرية الهائلة بالإضافة إلى ما ذكره ذلك المسؤول (الاقتصادي الرفيع) من أراض خصبة ومياه وشمس ومجاميع بشرية محيطة به يمكنه الاستفادة منها.
ابتداء نحتاج إلى قوانين تشجع على الاستثمار وتسهل عمل المستثمرين وتحمي استثماراتهم وإلى قضاء قوي وعادل كي يشعر كل المشاركين في الاقتصاد أن هناك من يحميهم ويضمن ارباحهم. للأسف فإن قضاءنا لم يعطِ مثالا جيدا في العدالة والاستقلالية خلال السنوات العشر المنصرمة، فما أن يدان شخص ما بجريمة سرقة أو اختلاس أو تجاوز على المال العام أو حتى إرهاب أو أي نوع آخر من أنواع الفساد، حتى يصدر حكم آخر من محكمة أخرى يلغيه ويبرئ ذلك الشخص الذي قد يكون بريئا وحكم عليه ظلما أو مجرما وبُرِّئ ظلما، وكلا الحكمين بائس ومعيب. هذه الحكومة مدعوة لأن تقوي القانون وتسند القضاة كي لا يشعروا بالخوف من هذا الحزب أو ذلك المتنفذ.
كذلك نحتاج إلى تغيير جذري في ثقافة المجتمع التي ما تزال تعتبر وظيفة الدولة مصدر الأمان الوحيد في هذا العالم المضطرب مع اتساع مجالات العمل في القطاع الخاص الذي يدفع اجورا أكثر من قطاع الدولة لكن المشكلة هي عدم تمتع من يعمل في القطاع الخاص براتب تقاعدي يستند عليه عند الكبر. فإن تمكنت الحكومة من حل هذه المشكلة وإدخال جميع المواطنين ضمن معاشات الدولة كما تفعل الدول الأخرى المتقدمة منها وغير المتقدمة، باستثناء الدول الفقيرة جدا، فإننا سوف نحل المشكلة ونجعل الناس تبحث عن أفضل الأجور بدلا من الاعتماد على الدولة في كل شيء. والدولة لا تنفق من الخزينة العامة على المعاشات بل تستقطع من موظفيها رسوما وضرائب شهرية تضعها في صناديق استثمارية معدة للمعاشات ثم تستخدمها لاحقا في دفع الضرائب وبإمكانها أن تفعل الشيء نفسه مع موظفي القطاع الخاص وتدخلهم في قانون التقاعد كي تحل هذه المشكلة التي تربك الدولة والمجتمع. ميزة القطاع الخاص أنه يقدم أعمالا وخدمات حقيقية للناس ويخلو تماما من البطالة المقنعة، على العكس من القطاع العام المكبل بالموظفين والعمال الذي لا يقدم كثيرون منهم أي خدمة أو إنجاز يذكر بسبب البيروقراطية والروتين وقوانين العمل البالية التي لا تمكِّن حتى من يريد أن يعمل بجد من أن يقدم شيئا.
إجراءات التقشف الحالية ضرورية لكن المطلوب هو أكثر من التقشف القاسي على الفقراء والمحتاجين. لا يمكن الحكومة أن تقسو على الناس هكذا دون أن تجد الحلول البعيدة الأمد للمشاكل التي تعيق صنع الثروة في البلد. يجب إصلاح القوانين كي تساعد المستمرين على الاستثمار في العراق وعندها لن تحتاج الحكومة سوى إلى المراقبة وتطبيق القانون. نحن بحاجة إلى قانون تقاعد يمنح كل مواطن حق التقاعد عنما يبلغ السن القانونية التي يبلغها الموظفون الحكوميون. عندها لن تجد الحكومة اصطفافا على الوظائف الحكومية القليلة الأجر التي اعتاد المواطنون الفقراء أن يسعوا إليها بسب الأمان والطمأنينة التي توفرهما لهم. فربما تمنحنا هذه الضائقة المالية التي نمر بها حاليا فرصة أخرى للتفكير في التأسيس لاقتصاد حقيقي يساهم الجميع في صنع الثروة فيه، ورب ضارةٍ نافعة.