قد تكون القرارات الأخيرة لمجلس الوزراء العراقي بإعادة النظر في قانون المساءلة والعدالة وحظر حزب البعث، ثم تشريع إنشاء «الحرس الوطني» متأخرة، لكنها مع ذلك جريئة وستترك أثراً إيجابياً في مستقبل العلاقات الوطنية التي تدنت كثيراً خلال العقد المنصرم.
لقد برهن رئيس الوزراء حيدر العبادي مرة أخرى أنه رجل دولة حقيقي ورئيس وزراء لكل العراقيين، يسعى إلى طي صفحة الماضي المرير وبدء صفحة جديدة تسودها الثقة المتبادلة بين الحكومة وشرائح الشعب العراقي المختلفة والكتل السياسية التي تمثلها. وهذا هو الذي كان ينقص العراق منذ أمد بعيد، ولا أريد هنا أن أحدّد أسماء زعماء آخرين لمقارنة العبادي بهم في هذه المزية، ولكن ربما كان الملك فيصل الأول ملكاًًًً لكل العراقيين وساعياً إلى إشراكهم جميعاً في بناء الدولة، وكذلك الزعيم عبد الكريم قاسم الذي أطاح الملكية، على رغم المعارضة التي لقيها من بعض الأوساط الطبقية التي تضررت من حكمه الثوري.
لقد كان قرار اجتثاث البعث إجراء خاطئاً منذ البداية وأفتخر بأنني عارضته قبل صدوره وأثناءه وبعده، ليس لأنني راضٍ عما فعله حزب البعث في العراق، فهذا يتحدى منطق الأشياء، وأحسب أن معظم البعثيين لم يكونوا راضين عما فعلته قيادة البعث المتمثلة بصدام حسين وأفراد عائلته المباشرة، ولكن لأنه كان واضحاً أنه يعاقب شريحة واسعة من المواطنين العراقيين المخلصين الذين انضموا الى الحزب الحاكم مضطرين أو خائفين أو مؤمنين بصواب أهدافه ومصدقين شعارات القيادة وأهدافها المعلنة.
إلا أن زيف ادعاءات البعث اتضح منذ الأسابيع الأولى لانقلاب ١٧ تموز (يوليو) ١٩٦٨، عندما انقلب البعثيون بعد أسبوعين فقط على شركائهم في الانقلاب على حكم الرئيس عبد الرحمن عارف، من بعثيين وغير بعثيين، كرئيس الوزراء عبد الرزاق النايف ووزير الدفاع إبراهيم الداود، ثم وزير الدفاع الثاني حردان التكريتي، وأقصوهم عن الحكم. وبعد فترة، اغتيل الأول في لندن والثالث في الكويت على أيدي «مجهولين» بينما عاش الثاني منفياً حتى وفاته.
ثم توالى مسلسل إقصاء الخصوم وحبسهم أو قتلهم أو اضطرارهم للهرب حتى اتسع ليشمل كل من له رأي مخالف حتى وإن كان مواطناً بسيطاً أو شاباً في مقتبل العمر، وما زلت أتذكر أن عناصر الأمن كانوا يأتون إلى المدارس ويدخلون إلى الصفوف ويقتادون الطلاب اليافعين إلى ساحات الإعدام وقد رأيت ذلك بعيني ولم يخبرني به أحد، ولدي عشرات الأسماء من أصدقاء وزملاء ومعارف ممن أعدموا وهم في عمر الزهور، لا لشيء إلا لكونهم حملوا رأياً أو فكراً ناقداً، ولم يشكلوا أي خطر على النظام.
لكن البعث انتهى عملياً عام ١٩٧٩ بمجيء صدام حسين وأفراد عائلته إلى قيادته، حتى أن شبه الأمي علي حسن المجيد (الملقب علي الكيماوي لاستخدامه السلاح الكيماوي ضد المدنيين العراقيين) أصبح عضواً في القيادة القطرية، وانتهى الحزب رسمياً في نيسان (أبريل) ٢٠٠٣ عندما دخلت الدبابات الأميركية بغداد وأزالت تمثال صدام من ساحة الفردوس، وما كان من الحكمة أن تبدأ الدولة العراقية الجديدة عهدها بملاحقة الصغائر والكبائر على حد سواء في قوانين قاسية ومذلّة لا تفرّق بين من انخرط في حزب البعث مضطراً أو مؤمناً بأهدافه ومن ارتكب جرائم حقيقية، فحرمت بذلك المجتمع العراقي من كفاءات كان يمكن أن تساهم في إرساء دعائم الاستقرار ودفعت بكثيرين إلى حمل السلاح ضد النظام الجديد.
كثيرون منا كانوا متيقنين أن هذا المسار ليس خاطئاً فحسب، بل سيقود البلاد إلى الهاوية، وهذا ما حصل، فبعد إثني عشر عاماً من الاقتتال الداخلي الذي راح ضحيته مئات آلاف الأبرياء، عدنا الآن إلى معالجة جذور المشكلة وهي ممارسة الطبقة السياسة الجديدة العزل والإقصاء بحق الآخرين المخالفين لها في الرأي.
والآن يبدو أن إنشاء الحرس الوطني بغطاء قانوني وتمويل رسمي وجعل مرجعيته بأيدي القائد العام للقوات المسلحة مع توجيه من مجالس المحافظات، سيمكّن أهالي المحافظات المنكوبة من التصدّي للإرهاب بقوة وبالطريقة التي يرونها مناسبة. ولكن يجب أن تتوحد القوى الأمنية لمحاربة الإرهاب على أساس وطني ومهني. لدينا الآن قوات الحشد الشعبي (الشيعية)، فهل ستبقى هذه القوات رديفاً للحرس الوطني (السني) المزمع إنشاؤه؟ وهل ستبقى «شعبية» من دون قانون مشابه ينظمها؟ إن كانت هذه هي الخطة فإنها لن تساهم في توحيد الجهود لمحاربة الإرهاب بل سوف تزيد من التشظّي الطائفي والانقسام الوطني. يجب أن يكون الحرس الوطني مجرداً من أي صبغة طائفية أو مناطقية ويضم العراقيين من كل المحافظات، لأن ما أضرّ بالعراقيين خلال الفترة الماضية هو الانقسام الطائفي الذي ولّد هذا الضعف اللامتناهي في دولة مترامية الأطراف تمتلك المقوّمات اللازمة للدولة العصرية القوية، من ثروات بشرية وطبيعية وإمكانات علمية وصناعية.
كما يجب أن نسدل الستار على مسألة «اجتثاث» البعث لأنها ابتداءً كانت عملية خاطئة وثانياً لأنها غير ممكنة بل إن كل الإجراءات التي اتخذت سابقاً في هذا المجال ساهمت في تعزيز قوة حزب البعث وزادت من تمسك أعضائه به. كثيرون يشبِّهون البعث بالنازية وهذا افتراض خاطئ، فالبعث غير النازية والمشكلة ليست في فكر حزب البعث القومي بل في نظام صدام حسين الإقصائي والسلوك الهمجي لكثيرين من رجاله، بعثيين وغير بعثيين، فضلاً عن أن اجتثاث النازية بعد الحرب العالمية الثانية كان خاطئاً هو الآخر ويتنافى مع مبادئ الديموقراطية وقد اعترف بذلك قادة أوروبيون وأميركيون، كما أنه فُرض على ألمانيا عام ١٩٤٥، أي قبل سبعين عاماً، وقد تغيّر كل شيء منذ ذلك الحين. وما كان صالحاً في السابق لم يعد كذلك الآن.
الخطوات التي اتخذتها حكومة العبادي حتى الآن تسير في الاتجاه الصحيح، ولكن المطلوب تفاعل البرلمان معها لأن هناك جهات معينة تحاول تعبئة الشعب ضد المصالحة الوطنية وهنا تكمن الخطورة. يجب ألا تتردد حكومة العبادي في اتخاذ خطوات جريئة لتوحيد الصف الوطني في وقت يتعرض العراق، دولة ومجتمعاً متنوعاً، إلى أخطر تهديد في تاريخه، ما يتطلب تضحيات وتنازلات قد تبدو لبعضهم مُرّة، لكنها ضرورية بل متأخرة عن موعدها.
http://alhayat.com/Opinion/Writers/7243104/المصالحة-الوطنية-في-العراق-كفيلة-بدحر-الإرهاب