التقيت بالسيد محمد بحر العلوم في لندن قبل ٣٠ عاما وبالتحديد في رمضان من عام ١٩٨٥عندما بدأت أتردد على مركز أهل البيت الإسلامي الذي كان قد أنشئ حديثا في تلك الفترة. كان يلقي محاضرات قصيرة في المركز مع السيد مهدي الحكيم (رحمه الله) ويحل محله عند غيابه.
أتذكر أنه في أحد الأيام وأثناء تناول الإفطار، جاء السيد بحر العلوم وجلس إلى جانبي على الأرض ولم تكن بيننا سابق معرفة حينئذ، وكان معه إفطار متواضع جلبه من منزله وأصر على مقاسمتي إياه رغم إننا كنا جالسين على مأدبة إفطار عامرة كان المركز يقيمها في أيام افتتاحه في رمضان. وبعد أن عرفت اسمه تذكرت أن هذا الرجل هو مؤلف كتاب حجر بن عدي الذي اقتنيته قبل فترة وقرأته.
ترك السيد بحر العلوم في نفسي أثرا كبيرا منذ لقائنا الأول واقتسامه إفطاره معي، فأحببته وكنت أشعر بسعادة لمجرد رؤيته ولقائه والاستماع إلى أحاديثه. تواضعه الجم وحسه الإنساني الرفيع أثارا إعجابي فكان دائما يبدأ الآخرين السلام وإن لم تذهب للسلام عليه فإنه يقصدك باحترام وكأن تحية الآخرين واجب عليه وليس من واجب الآخرين السلام عليه كما يفعلون في العادة مع رجال الدين. كان بحر العلوم رجل الناس المحب لهم بصدق والمناضل من أجلهم بشجاعة ولم يكن غريبا أن تجد في مجلسه كل الأصناف والخلفيات والمستويات الثقافية والاجتماعية، بل ترى حتى غير القادرين على إقامة علاقات مع الآخرين وقد أصبحوا أصدقاء له ولأولاده.
حضرت له محاضرات قيمة واستمعت إلى كلمات مؤثرة وقصائد بليغة ألقاها في مناسبات كثيرة ومازلت أتذكر قصيدته في رثاء السيد أبو القاسم الخوئي (قد) ومطلعها (أعرني فما كي استسيغ رثائيا) التي لم أجدها منشورة لسبب ما.
ذاكرتي تحتفظ بالكثير للسيد بحر العلوم ومما لا يُنسى هو المحاضرة القيمة التي القاها حول الدولة الفاطمية في مصر في حسينية المصطفى في لندن قبل أكثر من ربع قرن وكانت محاضرة قيمة حقا تخللها نقد موضوعي للدولة الفاطمية لم أسمعه سابقا من الباحثين الشيعة الذين كانوا دائما يشيدون بها.
كان السيد بحر العلوم مرنا في مواقفه السياسية والاجتماعية وكان خطابه معتدلا وموجها للعراقيين جميعا لذلك نجح في إقامة علاقات طيبة مع كل العراقيين بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية وكان دائما يردد أنه (عربي الهوى) وهذه حقيقة متجلية في أفكاره ومواقفه وعلاقاته الطيبة مع العرب، حكاما ومفكرين ورجال دين وشعراء.
كنت حاضرا في معظم النشاطات التي أقامها في لندن ولم أره يوما يطرح خطابا متشنجا أو إقصائيا بل كان حريصا كل الحرص على إشراك الجميع واحترام أفكارهم ومعتقداتهم مهما اختلف معها بل كان يمنع أي خطاب فيه انتقاص للآخرين في مجلسه ويصر على الوضوح ويمنع الخلط بين الأشياء وأتذكر أنه أوقف شخصا من قراءة (المقتل) بعد صلاة العيد في مركز أهل البيت قائلا له إن العيد مناسبة للبهجة وليس للحزن والبكاء.
كان يشارك العراقيين في كل مناسباتهم ولا يتردد في قطع المسافات الطويلة وتجشم عناء السفر من أجل اللقاء بهم ومشاركتهم همومهم ومسراتهم. أتذكر أنه سألني ذات يوم سؤالا أسعدني رغم الحرج الذي تضمنه: (لماذا لا تدعوني في النشاطات التي تقيمها يا مولانا)! بالطبع ما كنت لأهمل شخصا مرموقا أكن له كل الحب والاحترام كالسيد بحر العلوم في أي نشاط عام أقيمه وقد دعوته فعلا إلى عدد من النشاطات الكبيرة التي تليق بوجوده ولكن ليس إلى النشاطات الصغيرة لأن مقام الرجل وسنه لا يسمحان لأن يكون حاضرا فيها، لكنه مع ذلك كان يرغب أن يكون مشاركا دائما.
في نيسان من عام ٢٠٠٣، وبينما كنت أتأهب لمغادرة لندن إلى العراق، تلقيت مكالمة من نجله الأكبر الدكتور إبراهيم بحر العلوم، نقل لي فيها رغبة والده بأن أرافقه إلى العراق أثناء عودته، فاعتذرت لأنني كنت على وشك المغادرة بينما كان السيد يعتزم المغادرة بعد شهر تقريبا، ولو كنت قادرا على تغيير المواعيد لكانت العودة معه شرفا كبيرا لي. وقد التقينا في الكويت واستقبلته في مبنى إذاعة جمهورية العراق المؤقت في السالمية وأجريت معه مقابلة إذاعية.
أثناء عملي معه في مجلس الحكم، حرص السيد على إشراكي في كل نشاطاته أثناء رئاسته للمجلس وقد رافقته في زياراته إلى الصين واليابان والكويت وكنا في الطريق لحضور مؤتمر القمة العربية الذي كان سيعقد في تونس في نيسان من عام ٢٠٠٤ لكنه ألغي في اللحظة الأخيرة فعدنا إلى العراق.
محمد بحر العلوم شخصية متميزة وإن كانت العمامة قد شرفت بعض من ارتدوها فإن محمد بحر العلوم قد شرفها وأعطاها احتراما ومقبولية ليس في العراق فحسب بل في العالم العربي والمجتمع الدولي أيضا. عمامة السيد بحر العلوم عززت الثقة بالعمامة الشيعية على المستويين العربي والدولي وأعطتها احتراما ورقيا هي جديرة به. لا أعتقد أن أحدا سيملأ الفراغ الهائل الذي تركه، رغم أن أنجاله الثلاثة، إبراهيم ومحمد علي ومحمد حسين، الذين يحملون سمو أخلاقه وتواضعه وحميمية علاقاته الاجتماعية وحسه الإنساني الرفيع، متميزون، كل في الحقل الذي يعمل فيه.
غياب السيد محمد بحر العلوم مؤلم ومحزن لكل من عرفه عن قرب ولكن عندما ننظر إلى إنجازاته في مجالات الفكر والشعر والسياسة نفتخر أننا عرفناه وعاصرناه وعملنا معه ونشكر الله الذي متعنا بمعرفته وصحبته.