في وقت تحتل فيه مسألة تغيير النظام الحاكم في العراق موقع الصدارة علي المستويين العراقي والدولي، وتسعي فيه قوي المعارضة إلي توحيد مواقفها ورص
صفوفها بهدف تكوين جبهة واحدة ضد النظام الدكتاتوري القائم في بغداد، طلع علينا مجموعة من الاخوة العراقيين ببيان سموه (إعلان شيعة العراق) وضعوا فيه تصوراتهم لإحدي مشاكل العراق في الماضي والحاضر وما يرونه مناسبا من حلول للمستقبل. وعلي الرغم من انني لا أشكك بنيات معظم الموقعين علي الإعلان، خصوصا وأن بينهم شخصيات دينية وسياسية معروفة بالتوازن الطائفي والسياسي، إلا أنه لا بد من القول إن الإعلان بطبيعته وتوقيته وضيق أفقه اختزل مشاكل العراق كلها في مشكلة واحدة هي وضع الشيعة في العراق وطرحها بالشكل الذي يزيد من تعقيدها وبما يلحق الضرر بالشيعة أنفسهم.
وحتي أتجنب الاستغراق في استعراض الإعلان، بودي أن أشير إلي بعض النقاط التي وردت فيه لأنها في رأيي تشكل خللا في تفكير واضعي الإعلان، ولا أقول موقعيه، وخطرا علي مستقبل العراق والعراقيين
1 ــ تحدث الإعلان عن الطائفية السياسية (المتأصلة) في تركيبة الدولة العراقية، وألقي باللائمة طبعا علي (الإنكليز) كما هي عادة من يريد إغماض عينيه عن الحقيقة والبحث عن تبريرات تبعده عن المسؤولية، وفي الوقت نفسه (برأ) العراقيين، سنة وشيعة وطوائف أخري، من هذه (الطائفية). ابتداء، يجب التأكيد أن هذا التحليل خاطئ أو علي الأقل غير دقيق. فالدولة العراقية قامت علي أكتاف العراقيين جميعا، ولعب الشيعة من أبناء الفرات الأوسط والجنوب دورا مركزيا في نشأتها ومن ثم بناء مؤسساتها الدستورية، وتولي كثير منهم مناصب رفيعة المستوي بما في ذلك رئاسة الوزراء.
وليس أدل علي ذلك من أن عددا من الموقعين هم من أبناء أولئك الساسة من العراقيين الذين يشهد لهم التاريخ بالكفاءة والنزاهة والذين لم يعقهم انتماؤهم الطائفي من أن يكونوا وطنيين عراقيين بكل ما للكلمة من معني، يخدمون العراق كله، أي بكل طوائفه وأعراقه وقومياته. إن القول إن الدولة العراقية كانت ذات تركيبة طائفية هو، بالإضافة إلي كونه خاطئا، فإنه يخفف من المسؤولية الكبري التي تقع علي عاتق النظام القائم حالياً في تمزيق العراق وبث روح الفرقة والطائفية والعشائرية بين أبنائه. ومن هنا فإن الإعلان، شاء موقعوه أم أبوا، لا يخدم إلا الطائفية، والمستفيد الأول منها، وهو النظام القائم الذي يسعون للإطاحة به.
نعم هناك ممارسات طائفية موجهة ضد الشيعة قام بها أفراد عراقيون كانوا في مواقع المسؤولية، وإن هذه الممارسات ازدادت وتفاقمت في عهد صدام حسين الذي حاول الاستفادة من القضية الطائفية والقومية كلما واجهته مصاعب داخلية. إلا أن هذه الممارسات تبقي ممارسات أفراد لا يمكن سحبها علي الدولة العراقية أو باقي أفراد الشعب العراقي من السنة، الذين اعترف الإعلان بأنهم كانوا دائما علي وفاق مع إخوانهم الشيعة وأن (العراق هو نموذج للانسجام الطائفي والمذهبي) وأن (التلاحم الطائفي لأبناء العراق كان قويا لم ينل منه الأعداء). إن الحقيقة التي يجب علي الجميع أن يعرفها هي أن العراقي متميز في حرصه علي الوحدة الوطنية وتفهمه للآخر تفهما ليس معهودا في الشرق كله، ومن هنا فإن العراقي الشيعي يختلف عن أي شيعي آخر في تفهمه للسنة واحترامه لمذاهبهم ودفاعـــــه عنهم، وكذلك فإن العراقي السني هو الآخر وكذلك يتفهم الشيعة ومذاهبهم وأئمتهم، وتراه يدافع عن الشيعة في كل مناسبة دفاعه عن نفسه، وكل متتبع يعرف هذه الحقيقة، أما الغافل عنها فمدعو لملاحظتها.
الأكثرية الشعبية
2 ــ تحدث الإعلان عن (الأكثرية الشيعية) مقابل الأقليات الأخري، والذي يبدو مسكوتا عنه هنا هو (أن للأغلبية أفضلية علي الآخرين أو حقوقا أكثر من الآخرين) وإلا فما هو الهدف من ذلك؟ ولماذا نتحدث في القرن الحادي والعشرين بمنطق (الأغلبية ــ الأقلية) الذي لم يعد له مكان في عالم اليوم الذي يتساوي فيه المواطنون من كل الطوائف والأعراق والأجناس؟ إن السكان بمنطق الدولة الحديثة هم مواطنون متساوون أمام القانون لهم حقوق وعليهم واجبات ولا فضل لأحد علي آخر إلا بمدي الالتزام بالقانون وتأدية الواجبات. ومن هنا فإن ما يطمح إليه العراقيون اليوم هو قيام نظام يعتمد الديموقراطية أساسا للحكم ويلتزم بمواثيق حقوق الإنسان الدولية ويطبقها تطبيقا حقيقيا، ولا أقل من ذلك ولا أكثر. وإذا ما تحقق ذلك فإنه سيتيح الحرية كاملة لكل عراقي أو مقيم في العراق أن يمارس طقوس الدين أو المذهب الذي يرتضيه دون خوف من أحد، وعندها لن تكون هناك حاجة علي الإطلاق لـ(إعلان شيعة العراق) أو أي إعلان آخر من هذا القبيل. إن العراقيين لا يهمهم المذهب الذي ينتمي إليه الحاكم أو أفراد الحكومة اذا كان هؤلاء ملتزمين بالقانون ومنفذين لإرادة الشعب.
3 ــ قال الإعلان إن التيار الإسلامي هو الذي يمثل شيعة العراق (ضمنيا)، ولا أدري ما يقصد بهذا الكلام، إذ ليس هناك من يدعي تمثيل الشيعة لا التيار الإسلامي ولا غيره من التيارات الأخري، لأن الشيعة، كباقي الطوائف الأخري، يتوزعون علي التيارات المختلفة، فمنهم الإسلامي ومنهم القومي واليساري واللبيرالي. لذلك فإن القول إن التيار الإسلامي يمثل الشيعة غير صحيح، وأول من يعترف بذلك الموقعون أنفسهم. كذلك فإن تعريف الشيعة بأنهم (كل من يوالي أهل البيت) هو الآخر أمر ليس دقيقا، فهناك من الشيعة من هم علمانيون وغير متدينين أصلا فكيف إذن يمكن أن يصنفوا علي أنهم موالون أو غير موالين لأهل البيت (ع)، بالإضافة إلي ذلك فإن جميع أهل السنة يعتبرون أنفسهم موالين لأهل البيت، اللهم إلا قلة قليلة جدا، بل ومنهم من يتبع مذهب الإمام جعفر الصادق (ع) في بعض الأمور الفقهية.
4 ــ تحدث الإعلان وكأن موقعيه قد حصلوا علي تفويض من الشيعة لأن يتحدثوا باسمهم. وابتداء من الاسم، (إعلان شيعة العراق) وانتهاء بالتوجه والمطالبة باللامركزية، فإن مُصدِّري الإعلان تجاوزوا حقوق أبناء الشيعة الآخرين تجاوزا كبيرا. فالموقعون علي الإعلان قلة قليلة جدا من الأشخاص، بعضهم من أبناء عائلة واحدة، مما يشير إلي أن الأغلبية الساحقة من الشخصيات السياسية والدينية والفكرية وأصحاب الكفاءات المعنيين بالوضع العراقي والشيعي، غير مستعدين للتوقيع علي مثل هذا الإعلان. كذلك فإن عددا من الموقعين أعلن انسحابه، وآخر أعلن أسفه، بينما رفض كثيرون التوقيع، برغم الضغوط التي مورست عليهم، لأنهم يعرفون جيدا أن هذا الإعلان ليس في صالح العراق ولا الشيعة، ويخشون من أن يوظف مستقبلا لأهداف سياسية ذاتية ومصلحية يستفيد منها بعض الأشخاص لكنه سيضر بوحدة العراق الوطنية. وهذا ما يدعوني ويدعو كثيرين غيري إلي التعبير عن الاستغراب لأن يوقع علي الإعلان شخصيات عرفت باعتدالها ومحاربتها للطائفية وعدم انجرارها وراء الدعوات غير الواضحة الأهداف علي الأقل، برغم أنها لا تخفي علي كثيرين. وأستطيع القول إنني علي يقين من أن كثيرين من الموقعين قد وقعوا علي الإعلان إما مجاملة، أو استجابة لدعوة شخصية علي الهاتف، وأن كثيرين منهم لم يقرأوا الإعلان أصلا.
مناقشات دامت عامين
5 ــ قال موقعو الإعلان إنه جاء نتيجة لـ(مناقشات دامت عامين باشتراك ابرز الشخصيات العراقية من علماء دين وأكاديميين ومفكرين….) لكنهم أغفلوا أن هناك عددا كبيرا جدا ممن رفضوا هذه الأطروحة الطائفية رفضا قاطعا وامتنعوا عن التوقيع عليها واعتبروها دعوة لإثارة الفتنة الطائفية في وقت يحتاج فيه العراقيون جميعا إلي التركيز علي قضايا مهمة ومصيرية تهم مستقبل العراق وشعبه بكل طوائفه وقومياته. وبالإمكان إبراز قائمة لها أول وليس لها آخر من المعترضين علي الإعلان ومعارضيه من الشيعة أنفسهم. أما إذا خرج الإعلان عن صيغته الحالية وتحول إلي مشروع سياسي علني يحاول الاستفادة من الطائفية، كما هو متوقع، فإن المعارضة له ستكون أكبر وتبدأ من موقعيه وتنتهي بالغالبية العظمي من شيعة العراق. وعندها سيكون الإعلان قد قدم خدمة جليلة للنظام العراقي بإشغاله العراقيين بقضايا جانبية بدلا من التركيز علي القضية الوطنية الكبري. إن تقسيم العراقيين علي أسس طائفية هو أمر في غاية الخطورة وله عواقب وخيمة علي الوحدة الوطنية العراقية التي حافظ عليها الشيعة، كباقي العراقيين، لعقود طويلة من الزمن وصبروا علي كل الممارسات الطائفية التي مورست بحقهم من قبل نفر ضال من أبناء العراق الضعفاء الذين أرادوا أن يعززوا مواقعهم ومصالحهم غير المشروعة بالطائفية أو العرقية أو العشائرية. وفي عالم اليوم لم يعد مكان لمن يقسم الناس إلي سنة وشيعة، ونحمد الله علي أن العراقيين قد بلغوا درجة من النضج لم يعد ممكنا بعدها استغفالهم كي تنطلي عليهم دعوات من هذا القبيل.
الوحدة الوطنية
إن الشيعة الحقيقيين، وبمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية والاجتماعية، هم الذين يحرصون علي العراق ولا يفرطون بوحدته الوطنية بأي ثمن، وليس الذين يريدون توظيف أخطاء وقع فيها بعض العراقيين في الماضي لصالح أهداف ومصالح خاصة يمكن أن يبرزوا من خلالها بعد أن فشلت مشاريعهم السياسية الأخري.
إن الإعلان الذي أطلق عليه دون وجه حق اسم “إعلان شيعة العراق” لا يمثل الشيعة العراقيين من قريب أو بعيد. وإذا كان الإعلان يدعو حقا إلي الديمقراطية واحترام حقوق جميع الطوائف والقوميات فلماذا لا تكون الدعوة للديمقراطية باسم العراقيين جميعا وليس باسم طائفة لا يستطيع أحد أن يمثلها؟ والسؤال الأهم هو لمن يتوجه هذا الإعلان؟ هل للنظام العراقي القائم الذي لا يقيم وزنا لأي رأي سواء كان دينيا أم سياسيا، أم للنظام القادم الذي يطالب العراقيون جميعا بأن يكون نظاما ديمقراطيا معبرا عن إرادة الشعب العراقي بكل طوائفه وتياراته؟
فضل الله عارض الاعلان
وفي مداخلة علي قناة الـ(أي. ان. ان) الفضائية، أعلن المرجع الشيعي آية الله العظمي السيد محمد حسين فضل الله، وهو عالم ولد وترعرع في العراق، وله مشاعر طيبة تجاه هذا البلد ويحظي باحترام بين أبنائه جميعا، أنه يعارض هذا الإعلان لأنه كما قال (يضيف مشكلة أخري إلي مشاكل العراق، وهو في غني عنها)، ودعا السيد فضل الله كل العراقيين إلي نبذ الطائفية وأن يفكروا كمواطنين وليس كأبناء طوائف. ومن هنا تُوَجَّه الدعوة إلي العراقيين سنة وشيعة لأن يحاربوا أي دعوة للفرقة مهما كان مصدرها وأن يشككوا في صدق نوايا كل من يدعو لطائفية أو عنصرية، وصدق رسول الله (ص) عندما قال (ليس منا من دعا إلي عصبية).
وأخيرا يجب القول إن علينا أن لا نحمِّل الإعلان أكثر مما يستحق، فهو لا يعدو كونه ورقة وقع عليها عدد قليل جدا من العراقيين ظنوا أنها في مصلحتهم
ومصلحة آخرين، ودون أن يكترثوا أو ينتبهوا للأهداف التي يريد تحقيقها بعض من سعي لهذا الإعلان، وسيعلم جميع المخلصين أن لا مصلحة ترتجي من تقسيم أبناء البلد الواحد علي أسس طائفية. ويجب التأكيد أن ما يفعله هذا الشخص أو ذاك في الحكم أو خارجه لا يمثل بأي وجه من الأوجه الطائفة التي ينتمي إليها، وبالتالي لا يجوز تحميل طائفة معينة أخطاء نفر ممن ينتمون إليها.
جريدة (الزمان) العدد 1260 التاريخ 2002 – 7 – 15