يتوهم كثيرون عندما يعتقدون أن الفساد هو سرقة المال العام فحسب، بل هو غياب الضمير والمهنية وتدني الأخلاق وشيوع الجشع في مرافق الحياة المختلفة وليس بالضرورة في مؤسسات الدولة وحدها. فالدكان الذي يرفع الأسعار على بعض الزبائن دون وجه حق ويخفضها للبعض الآخر يمارس الفساد والسرقة، وصاحب سيارة الأجرة الذي يستغل جهل الراكب ويأخذ أجرة أعلى من المعتاد هو فاسد وسارق، وصاحب المطعم الذي يقدم طعاما متدني الجودة هو فاسد وعديم الضمير. الفساد يتعلق بحضور الضمير الحي في كل عمل ونشاط ومن غاب ضميرُه فسُدت أعمالُه.
وسائل الإعلام التي تعمل بالمحاباة والمجاملة هي فاسدة أيضا. مهمة رجل الإعلام هي إبراز الحقيقة والرأي السديد للمتلقين وكل من يفعل عكس ذلك بقصد أو دونه هو فاسد. المتابع للمشهد الإعلامي العراقي يرى أن عددا من العاملين في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، يأتون بأصدقائهم ليأخذوا رأيهم في القضايا الرئيسية وتجدهم يختلقون الألقاب والعناوين لهم، فيوما هم خبراء أمنيون، وآخر هم محللون سياسيون، وآخر هم متابعون وناشطون مدنيون أو سياسيون مستقلون وهكذا. وهذا هو الفساد بعينه فرجل الإعلام الذي يأتي بأشخاص غير مؤهلين وليس لديهم خبرة في المجال الذي يتحدثون فيه ويترك آخرين أكثر قدرة وخبرة إنما هو يخدع المتلقين ويسيء إليهم وهذا هو عمل غير مهني ويحاسب عليه في وسائل الإعلام المسؤولة المستقلة والمهنية وطالما عوقب إعلاميون لارتكابهم أخطاء من هذا القبيل، سواء كانت مقصودة أو دون قصد لأن النتيجة واحدة.
وسائل إعلامنا بحاجة إلى الانتباه لأن مسؤوليتها كبيرة. المعلقون والخبراء الذين يؤتى بهم لإثراء الأخبار والبرامج يجب أن يكونوا بالمستوى المطلوب. ليس من المعقول أن حفنة من المعلقين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة أو الاثنتين يهيمنون على الساحة السياسية والاقتصادية والأمنية والفنية في بلد ممتلئ بالخبراء والأكاديميين والعلماء في كل مجال. في القانون هناك أشخاص معينون يؤتى بهم في كل مناسبة وتتغير عناوينهم حسب الموضوع الذي يتحدثون فيه ذلك اليوم، فتارة خبراء في القانون الدستوري وأخرى في القانون الجنائي وثالثة في القانون الاقتصادي وهكذا، وكأن العراق قد خلى من المحامين والخبراء القانونيين. وفي المجال الأمني هناك بضعة أشخاص ينتشرون في وسائل الإعلام كلها وكأن العراق الذي يعاني من مشكلة أمنية لأثني عشر عاما ليس فيه خبراء أمنيون غيرهم. وفي الاقتصاد هناك بضعة أشخاص، بعضهم لديه معلومات سياحية، يتحدثون وكأنهم يعرفون دقائق الاقتصاد العراقي والعالمي، بينما يحتاج الخبير والمعلق الاقتصادي إلى متابعة النشاطات الاقتصادية والاستثمارية والاستهلاكية ونسب العمالة والبطالة ويعرف أرقاما تفصيلية عن دخول الأفراد والشركات وحجم الناتج المحلي الإجمالي والانفاق العام والخاص وجباية الضرائب وتفاصيلها ومعدل التضخم وحجم الاستهلاك والتدفقات المالية الداخلة والخارجة وما إلى ذلك من مؤشرات مهمة كي يتمكن من الحديث ويقدم معلومات دقيقة للمواطنين. مثل هذه الأرقام غير متوفرة حتى لمسؤولين كبار في الدولة للأسف فعندما تسألهم لا يمتلكون جوابا وبعضهم لا يفهمون السؤال أصلا.
على وسائل الإعلام تقع مسؤولية كبرى في اختيار المؤهلين للحديث في القضايا المهمة وإلا فإنها ستساهِم في تعزيز حالة الفوضى والتجهيل التي تسود العراق. لا يهم إن كان مديرو هذه الوسائل غير منسجمين مع هذا أو ذاك أو غير راضين عنه، بل المهم ما تقدمه وسائل الإعلام التي يديرونها من معلومات حقيقية ومفيدة للناس. في الإدارة الإعلامية المهنية لا يحكِّم مدير البرنامج أو القناة أو الإذاعة أو رئيس التحرير مزاجه، بل حنكته وخبرته في تقديم مادة صحيحة ومفيدة مرتبطة بالواقع للمتلقين. للأسف الكثير من وسائل إعلامنا تُدار عبر مزاج المدير فحسب وهذا خلل كبير لا يصلحه إلا المديرون والممولون أنفسهم الذين يحتاجون إلى الابتعاد عن العاطفة في تعاملهم مع وظائفهم إن أرادوا حقا أن يخدموا مؤسساتهم ومتلقيهم.
حميد الكِفائي
(الصور أعلاه هي للمثل البريطاني الكوميدي الشهير، روري برمنر، الذي يتقمص كل شخصية ويناقش كل موضوع)