دعاني كاتب انكليزي صديق الشهر الماضي الي امسية اقيمت علي شرف المفكر المصري سعد الدين ابرهيم الذي كان يزور لندن وكانت فرصة لي للتعرف عن قرب علي ارائه في ما يجري من احداث في عالمنا العربي.
كانت المرة الأولي التي تعرفت فيها على أفكار سعد الدين إبراهيم عام 1987، عندما شارك في برنامج تلفزيوني بثته القناة الثالثة في التلفزيون البريطاني تحت عنوان (سيف الإسلام). وكان البرنامج من أولى محاولات الإعلام الغربي لاستكشاف ظاهرة التطرف الديني في العالم الإسلامي، وقد استعرض البرنامج الحركة الإسلامية في كل من مصر ولبنان.
كنت أعتقد أن سعد الدين إبراهيم يحلل بعيدا عن الواقع ويفسر انطلاقا من النظرية لا من حقيقة ما يجري على الأرض. وكان يرى أن هناك أسباباً عدة اجتمعت معا وساعدت على ظهور التطرف الإسلامي منها البطالة ونقص التعليم وغياب الأمل، وكل هذه الأسباب تدفع الشباب نحو التطرف لأنهم لا يرون أي بارقة أمل للخلاص من واقعهم المرير. بينما كنت أعزو التطرف إلي الدكتاتورية والقمع بالدرجة الأولي، وإن التيار الإسلامي قد دُفع إلي التطرف وحمل السلاح دفعا بسبب سياسة القمع والإلغاء التي تمارسها الأنظمة العربية الحاكمة. إلا أنني بعد مرور سنوات عدة وجدت نفسي اتفق مع تحليلاته بشكل عام، إلا أنني لا أزال أري أن أنظمة الاستبداد والتسلط هي المسؤول الأول والأخير عن التطرف والإرهاب لأنها هي التي جردت الإنسان العربي من أي فسحة يعبر فيها عن رأيه ويراجع بها نفسه ويفكر بما يجري من حوله. لقد حاصرته في بلده ومنعت عنه المعلومات ومنعته حتي من التعليم والإعلام الحر، وهي من أبسط حقوقه، وأنفقت الأموال علي توافه الأمور وملذات الحكام وأتباعهم والمطبلين لهم. في كل الأحوال فإنني انطلق من الواقع العراقي في ظل صدام حسين، الذي لا مثيل له في المنطقة كلها، من حيث الظلم والتعسف والقسوة ضد كل فئات شعبه.
غياب الديمقراطية
وحول غياب الديمقراطية في البلدان الاسلامية حيث سعد الدين (لا يمكن إلقاء اللوم علي الإسلام في ما يتعلق بغياب الديمقراطية، فالإسلام لا يعارض الديمقراطية بل يرحب بها، والدليل أن الديمقراطية معمول بها في إندونيسيا وماليزيا، وهما دولتان إسلاميتان، إلا أن معظم الدول الإسلامية هي من دول العالم الثالث الذي لا يمتلك أنظمة ديمقراطية متطورة، وهي متخلفة لأن التقدم لم يتأصل فيها بعد وليس لأنها دول إسلامية). كانت أجوبته مقنعة ومحط إعجاب الجميع. لقد أذهلتني قدرة هذا الرجل علي إيجاد الحلول التوفيقية المقنعة بين الشرق والغرب والتي لا تزعج هذا الطرف أو ذاك.
عن أوضاع العراق وعن المشاكل التي تواجهه حاليا وما أراه مناسبا من حلول، وتحسر علي الوضع الذي وصل إليه البلد بسبب سياسات صدام اللامسئولة. وقال إن هذا البلد فريد من نوعه في الشرق الأوسط وبين دول العالم الثالث فهو يمتلك كل مقومات التقدم من ثروات بشرية ومالية ومصادر طبيعية وتقدم علمي، وكل الذي يحتاجه هو حكومة معقولة تحترم تنوعه الثقافي والقومي والديني وتلتزم بالقوانين الدولية، وهذا ليس أمرا صعبا علي أي حكومة تشعر بالحد الأدني من المسؤولية. وبعد انتهاء الأمسية
وقد فوجئت بأن هذا الرجل الذي بدا معافي تماما أثناء الجلوس، يسير متثاقلا ويتوكأ علي عصا. وسألته عن سبب ضعفه خصوصا وأنه لم يتجاوز الثانية والستين من العمر، فقال (لقد أصبت بجلطة عندما كنت في السجن، ومنذ ذلك الوقت لم تتحسن حالتي الصحية). فتساءلت مع نفسي كيف يُسجن مثل هذا المفكر الذي تتمني دول العالم أن يكون بينها من أمثاله؟ كيف يُسجن وقد شارف علي الستين؟ وبأية تهمة (تشويه سمعة مصر)!!. أمثال سعد الدين إبراهيم فخر لبلداننا فكيف نتهمهم بهذه التهمة الفظيعة! ثم ليس هناك أي فقرة في القانون الدولي تجيز حتي توجيه مثل هذه التهمة لأحد، لأنه لا يمكن لأحد أن يشوِّه سمعة بلد أو دين أو أمة ولا حتي عائلة، وتشويه السمعة يقتصر علي الأشخاص فقط. البلدان المتقدمة تكرم مبدعيها وتسهل مهماتهم وتمكنهم من تحقيق المزيد من الإنجازات أما نحن فنسجنهم أو نقتلهم أو نتهمهم بشتي التهم الباطلة، من المستفيد من ذلك؟ لا أحد يعلم، من المتضرر؟ بالتأكيد البلدان العربية وشعوبها، بل وحتي حكوماتها. وبعد أن استغرقت كثيرا في التفكير بأوضاع العالم العربي والإسلامي، تذكرت ما حصل للمفكرين والشعراء والأدباء والمبدعين في العراق. فمنهم من أذيب في أحواض التيزاب (الأسيد) ومنهم من دفن بملابسه بعد أن مات تحت التعذيب، بينما أجبر آخرون علي إضفاء الصفات الإلهية علي صدام حسين (لولاك ما نبت الشجر لولاك ما طلع القمر….) أنت نبي والنبي لازم عربي، ولم تنفع آخرون محاولات استرضاء صدام، فتعرضوا للسجن والتعذيب والإعدام كالمفكر عزيز السيد جاسم الذي اختفي في مطلع التسعينات ثم أُعدم، لمجرد أنه اعترض علي إهانة صدام حسين لأهل الجنوب. تذكرت بعد ذلك وصف إبراهيم لمصر بأنها (الليبرالية السويدية مقارنة بالعراق) لما يتمتع به المفكرون والكتاب المصريون، وأفراد الشعب بشكل عام، من حرية نسبية.
أودعت سعد الدين وتمنيت له الشفاء العاجل والعمر المديد، فنحن حقا بحاجة إلي أمثاله في هذه المرحلة الحاسمة.
جريدة (الزمان)-2003-10-27
AZZAMAN NEWSPAPER — Issue 1646 — Date 27/10/2003