فقد فعل صدام حسين ذلك عام 1980 عندما مزق علناً اتفاقية الجزائر المعقودة مع إيران، والتي وقعها هو بنفسه، وشن حرباً على جاره الشرقي دامت ثماني سنوات، أودت بحياة أكثر من مليون إنسان وأصابت بالعوق مليوناً آخر على أقل تقدير.

والنظام الإسلامي في إيران لم يحقق للشعب الإيراني ما كان يصبو له من حرية وديموقراطية وتنمية مما دفع الكثير من الأحزاب والمجموعات التي ساهمت مساهمة فعالة في الثورة الإيرانية إلى معارضة النظام الجديد منذ البداية، ومنها “مجاهدي خلق” وحزب تودة وتيار مهدي بازركان ومجموعة قطب زادة وإبراهيم يزدي وأبو الحسن بني صدر ومهدي هاشمي وأخيراً وليس آخراً حسين منتظري، نائب الخميني وخليفته الرسمي لعشر سنوات.

 وقد دخل النظام في حرب تصفية داخلية، جعلته يشعر أن الحرب التي شنها عليه صدام قد جاءت في وقتها، هدية من السماء، لتساعده على توحيد أطرافه المتنازعة وتصفية معارضيه، وكان له ما أراد. فقد هرب أول رئيس منتخب للجمهورية الإسلامية، أبو الحسن بني صدر، متنكراً إلى فرنسا عام 1981 ناجياً بجلده، بينما أعدم لاحقاً صادق قطب زادة ومهدي هاشمي وآخرون، بتهمة التآمر وأعلنت حركة “مجاهدي خلق” الحرب ضد النظام لتقتل أهم قادته كبهشتي ورجائي وباهونار ودستغيب وغيرهم، بينما فقد خامنئي ذراعه اليمنى في تفجير استهدفه.

 وقبل ذلك، قتل مرتضى مطهري، أهم زعماء الثورة بعد الخميني، على أيدي منظمة الفرقان. امتدت الحرب مع العراق ثماني سنوات وحصدت الأرواح ودمرت الاقتصاد، لكن المهم بالنسبة للنظامين المتحاربين كان البقاء في الحكم بأي ثمن، فالإيرانيون يعتقدون أن نظامهم يمثل «بيضة الإسلام» التي إن «فُقِسَتْ» سينتهي الإسلام كلياً، بينما اعتبر صدام حكمه «ضرورة قومية» باعتباره «حارساً للبوابة الشرقية للأمة العربية». انتهت الحرب بعد أن أدرك الإيرانيون أنها، إن استمرت، فستقضي على «بيضة الإسلام» مما دفع الإمام الخميني لأن «يتجرع السم» ويوافق على إنهاء الحرب.

 زرت إيران مرتين، الأولى ضمن وفد عراقي برئاسة الرئيس جلال الطلباني عام 2003، والثانية ضمن وفد رسمي آخر برئاسة نائب رئيس الوزراء، برهم صالح. وخلال الزيارتين وجدت بلداً جميلاً مترامي الأطراف تجتمع فيه الفصول الأربعة في آن، ويمتلك موارد طبيعية وبشرية تفتقر إليها بلدان كثيرة، وشعباً تشبعت فيه الحضارة والمدنية ويتميز بالعمل الجاد والدؤوب في سبيل حياة أفضل. وقد لمست استياء شعبياً واسعاً من النظام الحاكم، فأينما ذهبت وجدت الناس ينتهزون فرصة وجود الأجنبي كي ينقلوا له حجم الاستياء الشعبي من النظام ويبرزوا مساوئه وينتقدوا ممارساته وقمعه للحريات وتفضيله لفئات دون أخرى وما إلى ذلك من تجاوزات.

 وأثناء إقامتي في الفندق، رأيت عدداً من المثقفين الإيرانيين الذين بادروني الحديث حول ظروف بلدهم وقالوا إنهم جاؤوا إلى الفندق كي ينقلوا وجهة نظرهم للزائرين الأجانب. قال لي أحدهم الذي تحدث بلغة إنكليزية طليقة: أنتم في العراق لديكم فرصة ذهبية في إقامة نظام ديموقراطي تعددي منفتح، فحذارى من الانجرار إلى ما انجررنا إليه نحن الإيرانيين عندما سمحنا بإقامة نظام إسلامي متشدد نرزح الآن تحت دكتاتوريته، وأكثرنا يتمنى لو أنه لم يؤيد قيام النظام الإسلامي الذي كنا نعتقد أنه سينطلق بنا نحو الحرية والديموقراطية والتنمية الاقتصادية. لم يمض الشاب الإيراني وقتاً طويلاً في الفندق، وكأنه قد جاء خصيصاً لإيصال هذه الرسالة. ودّعني وقال: «لا تكرروا خطأنا في العراق، تمسكوا بالديموقراطية الحقيقية».

 لقد زادني ذلك الشاب الإيراني إعجاباً بهذا البلد الذي ابتلي بنظام رجعي لا يفهم أن فترة صلاحيته قد انتهت وأن أفضل وسيلة للحفاظ على كرامة مؤسسيه وإرث ثورته العظيمة هو احترام رأي المعارضين وفسح المجال أمام التغيير. النظام الإيراني يحتضر وسوف يسقط من دون شك والمسألة مسألة «متى» وليس «إذا»، لكن هل يمتلك زعماء إيران الحنكة كي يقلصوا من خسائرهم وخسائر شعبهم ويتخذوا قراراً بإطلاق الحريات العامة والسماح بإجراء إصلاحات حقيقية للنظام تسمح بممارسة ديموقراطية لجميع الإيرانيين وليس فقط للمؤمنين بولاية الفقيه؟ إن فعلوا فسوف يبرهنون حقاً على أنهم ليسوا دكتاتوريين، بل يحترمون رأي الأكثرية، وإن كانت الأكثرية تريد الإصلاح فليحصل هذا في ظل النظام الحالي لا بعد إسقاطه.

 احتلال إيران لبئر الفكة العراقي يدخل ضمن الأزمة الداخلية التي يعاني منها النظام الإيراني فهو أراد باحتلاله للبئر أن ينقل معركته مع الشعب الإيراني إلى الخارج. النظام الإيراني يعرف أن العراق مرتبط باتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة تلزمها بالدفاع عنه ضد أي اعتداء خارجي، وكأنه بعمله هذا يبحث عن أزمة خارجية تنقذه من أزمته الداخلية. لقد أحرج النظام الإيراني بهذا الاحتلال حلفاءه وأصدقاءه في العراق وساعد خصومه، خصوصاً أنه اختار توقيتاً سيئاً، إذ جاء قبيل انتخابات تشريعية مصيرية، لكن الأهم على ما يبدو هو إيجاد هذا العدو الخارجي (المنقذ)، وليس هناك أفضل من عدو أميركي يحاربه في حدوده، لأنه سيقدم له فرصة هو في أمس الحاجة إليها حالياً. وقد يكون التوقيت مقصوداً كي يسبق احتفالات عاشوراء التي توقع النظام أن تشهد احتجاجات شعبية ضده.

 أزمة بئر الفكة وحّدت الموقف العراقي الرسمي والشعبي الذي كان واضحاً في إدانته للاحتلال. الموقفان العراقي والأميركي تميزا بالحكمة، إذ لم يقدما للنظام الإيراني طوق نجاة عبر مواجهة عسكرية كانت ستحوِّل أنظار الشعب الإيراني عن ثورته من أجل الحرية، إلى تهديد خارجي و«عدوان» أميركي كما كان سيصوره النظام لو حاول العراق استرجاع البئر بالقوة. كل من يهاجم إيران حالياً سيقدم هدية سانحة للنظام الإيراني. بئر فكة سيعود فهناك قوانين دولية وثنائية تضمن حل النزاعات بشكل سلمي لكن المهم الآن هو عدم إحباط ثورة الشعب الإيراني من أجل التحرر والديموقراطية. هذه الثورة، إن نجحت، فسوف تؤسس لنظام ديموقراطي علماني متصالح مع المنطقة والعالم.

 حميد الكفائي