عندما يغادر ذوو الفضل
17 آب 2020
كنت أقيس مستوى المياه ثلاث مرات في الشهر لكل بئر، وكنت أذهب إلى تلك الآبار النائية على دراجة نارية مع صديقي الصدوق كامل لجيوي. في العام 1971، انهيت الدراسة الابتدائية وبدأت العمل في حقل لزراعة الشلب وكان يستغرق جل وقتي وأبذل فيه جهدا كبيرا، لكنني كنت سعيدا ببذل الجهد، فالعمل المتواصل يعطيني متعة فائقة، سابقا وحاليا، وسعادتي لا تكتمل إلا عندما أمضي عشر ساعات على الأقل في عمل متواصل يوميا.
وبينما كنت عائدا ذات يوم من العمل، وكان ذلك في صيف عام 1971، رأيت أختي نعيمة، التي تكبرني بأربعة عشر عاما، تقف في باب بيتنا حاملة ورقة تلوح بها عن بعد، وتقول كلاما لم اسمعه جيدا كوني مازلت بعيدا. أخذت أفكر ماذا تكون هذه الورقة يا ترى! أسرعت الخطى كي أتعرف على هذه الورقة اللغز، وعندما اقتربت منها، سمعتها تقول نجحت يا حميد، نجحت نجحت! ودرجاتك عالية جدا. مبروك لك ولنا!!! أعطتني الورقة التي كانت تلوِّح بها وإذا بها شهادة النجاح في امتحان البكلوريا في الصف السادس الابتدائي!
كانت درجاتي عالية فعلا، ومعدلي فوق التسعين، واتضح لاحقا بأنني كنت الأول على مدرسة الثورة الابتدائية للبنين، بل أُخبرت أيضا بأنني كنت الثاني على محافظة المثنى، التي كانت قد استقلت حديثا عن محافظة الديوانية. ومدرسة الثورة التي تطل على النهر شمالي المدينة، تأسست عام 1948، وكانت أول مدرسة تشيد في المدينة، وكان اسمها عند التأسيس مدرسة الرميثة، لكن الاسم تغير عام 1958 إلى مدرسة الثورة تيمنا بالتغيير الذي قاده الزعيم عبد الكريم قاسم. وقد قُسِمت المدرسة لاحقا إلى مدرستين بعد تزايد عدد طلابها أواخر الستينيات، وسميت المدرسة الجديدة “مدرسة الرميثة الابتدائية للبنين”، وهو الاسم الأول للمدرسة الأم.
مع الوالد (السيد جابر السيد علي) في مطار هيثرو أثناء مغادرته إلى العراق في 22 آب 1992
في تلك الأيام، كان الناس يهتمون كثيرا بالنجاح ويحتفون بالناجحين، فكيف إذا كانوا الناجحين الأوائل؟
وفي بداية العام الدراسي، فوجئت بأن إدارة المدرسة الثانوية التي انتقلت إليها حديثا، ثانوية الرميثة للبنين، تعتزم إقامة حفل بهيج في القاعة العملاقة في المدرسة، للاحتفاء بالطلاب الأوائل على المدارس الابتدائية في المدينة. طلبت مني إدارة المدرسة أن ألقي كلمةً في الحفل. في الحقيقة لم يكن طلبا، بل أمرٌ واجبُ التنفيذ! كنت متهيبا فعلا، فالقاعة ستكون ممتلئة بالطلاب والمدرسين والضيوف، وهي تتسع لمئات الأشخاص، وكل مدرسي وطلاب المدرسة سيجتمعون فيها أثناء الحفل، وكنت شابا يافعا في الثانية عشرة من عمري ولم أعتد على إلقاء الكلمات.
وفعلا، ألقيت الكلمة، ولم أكتب منها حرفا واحدا، بل ولا أعرف من الذي كتبها، ولكن سلمتها لي إدارة المدرسة قبل يوم واعطتني إجازة ذلك اليوم للتدرب على إلقائها، ولا أتذكر كلمة واحدة منها الآن، بل لم أفهم عباراتها الرنانة حين إلقائها! كنا أربعة طلاب، إذ كان في الرميثة أربع مدارس فقط، هي الثورة وجرير والفرزدق والرميثة، وأتذكر اثنين من الطلاب الأوائل وهما سلام ﮔنون ومقداد جمعة، وقد ألقى كل منهما كلمة في الحفل أيضا. للأسف نسيت اسم الطالب الرابع. ما زلت أتذكر مقداد يجيء ويروح في المدرسة للتدرب على إلقاء الكلمة، وكان يقرأ بصوت عال، وكأنه المذيع رشدي عبد الصاحب! غبطته على جرأته وأدائه. أما أنا وسلام فكنا هادئين، وقد ألقينا كلمتينا بالحد الأدني من الحماس. كان سلام أول الخطباء، وقد تلوته أنا، وأعتقد بأن الترتيب كان حسب المعدل وأظن أن سلام أحرز درجات أعلى من الفائزين الثلاثة الآخرين.
أتذكر أنني عثرت أثناء صعودي المدرج في طريقي الى المنصة لإلقاء الكلمة. لا أدري إن حدث ذلك بسبب الارتباك أم أنه حدث عادي حصل صدفة. ألقيت كلمتي وصفق الحاضرون وحمدت البارئ أن تلك المعضلة التي أقلقتني ليومين قد انتهت على خير، وإن كنت قد عثرت أثناء صعودي إلى المنصة، ولكن اعتبرت المسألة بسيطة، وبالتأكيد لم ينتبه إليها أحد، أو هكذا ظننت، فالكل منشغلون بالحدث المهم وهو الاحتفاء بالناجحين الأوائل. لم تكن عثرتي مدوية إذ لم أسقط أرضا، بل واصلت سيري المنتظم إلى المنصة، وألقيت كلمتي بسلاسة، وكيف لا، وقد كنت أتدرب على إلقائها يوما كاملا، ولم تكن تتجاوز الصفحتين.
وفي ختام الحفل، صافحني مدير ثانوية الرميثة، المربي الكبير، ذو الفضل العظيم على أجيال مدينة الرميثة كلها، الأستاذ ناظم غازي كريم، وسلمني هدية ثمينة هي قلم باركر! كان الأستاذ ناظم مديرا صارما، وكانت له هالة وهيبة بالغتان بين الطلاب والمدرسين والناس جميعا في الرميثة، رغم قصر قامته ونحافة جسده. لقد ضم جسده النحيف رجلا عملاقا حقا. (وترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسدٌ هصور)*! كان مُهابا، وكان جميع المدرسين والطلاب يحسبون له حسابا.
عدت إلى المنزل مساءً، وقد فاجأني أخي حسن عند الباب بسؤال: لماذا عثرت في المدرج أثناء صعودك إلى المنصة اليوم؟ (خجّلتنا)! ذُهلت لسؤاله، فكيف عرف بهذه الحادثة الصغيرة، وبهذه السرعة ولم يكن حاضرا في القاعة؟ تبين أن صديقه فؤاد شرماهي قد سرد له القصة، فضحكنا كثيرا، وتساءلنا كيف تحولت زلة قدم عادية إلى خبر هام يتناقله الناس، ويتقدم على الحدث الرئيسي وهو الاحتفاء بالناجحين الأوائل؟ ولكن، تلك هي حياتنا، نحاول أن نملأها مرحا وسرورا بأي وسيلة.
تلك هي الأيام، كما يقول المثل الإنجليزي (Those were the days)
رحل أخي حسن في التاسع من آذار عام 2013، ومازال جرح غيابه غائرا، بل سيبقى غائرا إلى آخر يوم في حياتي، فقد كان الشخص الذي أحببته منذ صغري. لقد كان الشخص الذي جعلني أحب الحياة وأسعى لأن أحرز فيها إنجازات لأن هناك من يحتفي بها ويفتخر. كنت قلقا طوال وجودي في لندن على حسن دون غيره من أفراد العائلة. فقد كان حسن يمثل الأريحية والنبل والإيثار والحب والتسامح والكرم والخلق الرفيع. أثناء حرب الثماني سنوات، انقطع اتصال حسن بي. كنت أرسل له الرسائل لكنه لم يجبني. أتصل تلفونيا وأطلب الحديث معه فيُقال لي إنه غير موجود. ومع تكرار هذه الحواداث تيقنت أن حسن ربما قتل في الحرب لكن أهلي لا يجرأون على إخباري لعلمهم بأن وقع الخبر عليّ سيكون مدمرا، خصوصا بعد مقتل أخي حسين في الجيش أواخر عام 1976.
استسلمت للقدر، وقررت ألا أسعى لأعرف الحقيقة لأنها ستكون مؤذية. وذات يوم دق جرس الهاتف. أجبت، وإذا به حسن على الجانب الآخر. لم أصدق. سألته مرات هل أنت حقا حسن؟ فقال نعم. سألته لماذا لم تتصل بي كل هذه السنين؟ قال لم يتوفر لي التلفون! لم أصدق، وظننت أنه شخص آخر يمثل دور حسن، فأهلي جميعا يعرفون مقدار حبي لحسن وقد دبروا هذا التمثيل كي يقنعوني بأن حسن بخير. طلبت منه أن يتواصل معي فأنا احتاج أن أتحدث معه في أمر هام. كان حسن قد اقترض الف دينار كي يعطيني إياها لتسهيل سفري إلى لندن. كان ذلك في عام 1980، وقد وعدته بأن أعيدها له في أقرب فرصة، فقد كان مبلغا باهظا حينها (3300 دولار).
وفي عام 1984، دبرت مبلغا من المال كي أوصله له. وطلبت من الساعي أن يوصله له شخصيا ويتصل بي ومعه حسن كي أتأكد من أن حسن حيٌ يرزق ولم يقتل في الحرب. وفعلا اتصل بي حسن وشكرني على إرسال المبلغ، فتأكدت حينها بأنه مازال حيا.
في العام 1988، قتل صديقي العزيز كامل لجيوي في الحرب العراقية الإيرانية، وكان في الثلاثين من عمره، وكان ذلك جرحا آخر مازال نازفا، إذ كان كامل من أعز أصدقائي، وكان شخصا كريما وظريفا وأنيس الصحبة، يهب لمساعدة الأصدقاء دون مقابل. كنا أنا وإياه نسافر معا إلى البصرة لمشاهدة الأفلام السينمائية والتفسح على ضفاف شط العرب.
مع زميل الدراسة الصديق الراحل مقداد جمعة الجنابي-بغداد تشرين الثاني 2005
كما رحل زميلي مقداد جمعة قبل سنوات، وكان في ريعان الشباب، وكان الشخص الذي دعمني في الانتخابات عام 2005 ورشح معي وروج لحملتي الانتخابية. لقد كان مقداد شخصا فخورا ومعتدا بنفسه وجريئا في التصريح بآرائه، وربما لهذا السبب أحببته. أتذكر أنني كنت ذات يوم صائف راكبا في حافلة قادمة من السماوة إلى الرميثة، أيام ما كنا في المدرسة الثانوية منتصف السبعينيات، وقد ركب مقداد، الذي كان يرتدي ملابس العمل، إذ كان يعمل في البناء في العطلة الصيفية، وجلس قربي فدفعت أجرة الحافلة عنه، فهكذا كانت العادات حينها، أن تدفع عن أصدقائك إن كنت قد سبقتهم إلى الحافلة أو المطعم أو المقهى أو الفندق. وبدلا من أن يقول لي شكرا لك يا صديقي، قال (أنتم الإقطاعيين تغدقون على الناس الأموال التي حصلتم عليها بسهولة فأنتم لم تكسبوها بعرق جبينكم)!
يبدو أنه، لسبب ما، كان يظن بأنني اقطاعي غني!!! ربما لأنني كنت ارتدي ملابس أنيقة، لذلك دفعت أجرة الحافلة عنه، لأن لدي من الأموال ما يفيض عن حاجتي! ولم يعلم بأنني، مثله، كنت أؤدي عملا مضنيا، وربما كنت أمضي في عملي وقتا يفوق ما يمضيه هو في عمله بساعات طويلة، لكن عملي يتطلب أن أكون أنيقا، فقد كنت معلما ومديرا… أوضحت له بأنني لست إقطاعيا ولا ثريا، بل أعمل واكسب عيشي بعرق جبيني، تماما كما يفعل هو، لكن عاداتنا جرت بأن ندفع عن الأصدقاء إن كنا قد سبقناهم، فتفهم موقفي وشعر بالخجل مما قاله.
كما رحل الأستاذ ناظم غازي كريم في 22 تشرين الأول من العام الماضي (2019)، وترك رحيله في نفسي ألما شديدا، لما له في قلبي من موقع أثير إذ كان يمثل حِقبة زمنية مهمة في حياتي.
واليوم، 17 آب 2020، رحلت أختي العزيزة نعيمة التي ربتني صغيرا وكانت بمثابة أمي الثانية. لقد علمتني كل ما يجب أن يتعلمه الطفل. نعم كل شيء! في كل صباح كانت توقظني وتقدم لي الفطور وتساعدني في ارتداء ملابسي كي أذهب إلى المدرسة. وعندما أعود، كانت تقدم لي الطعام فور عودتي. كانت في أعماقها تريدني أن أحقق الحلم الذي أرادته لنفسها لكنها لم تحققه، بسبب القيود الاجتماعية، وهو أن أكمل دراستي بتفوق وأكون شخصا متميزا.
كانت تحرص أن أرتدي أفضل الملابس وأفخر الأحذية وطالما أمرتني بخلع ملابسي، حتى وإن لم تكن متسخة، وارتداء أخرى نظيفة ومكوية. كان لدينا (أوتي) يعمل على الفحم، وكان ذلك قبل أن يرتبط بيتنا بالتيار الكهربائي! كان في جوفه موقد، يوضع فيه الجمر، كي يسخِّنه قبل استخدامه، فكوي الملابس لم يكن سهلا في تلك الأيام، لكن نعيمة مع ذلك كانت تحرص عليه. كان ذلك الآوتي يثير إعجابي حقا، خصوصا عندما أرى الجمر متأججا في باطنه.
أخي الأكبر حسن مع الوالد في مضيفنا في الرميثة عام 1986
وكان لدينا أيضا تلفزيون يعمل على بطارية السيارة! وأتذكر أن الشاشة كانت تنكمش شيئا فشيئا عندما تتدنى قوة البطارية. كنت أحمل البطارية على دراجتي الهوائية لأشحنها في محال إصلاح السيارات وأعود بها في المساء كي نوصل التلفزيون بها ونبدأ بمشاهدة الأخبار والأفلام والبرامج في التلفزيون، الذي كان الوسيلة الوحيدة للتسلية حينها، إضافة إلى الراديو، خصوصا للنساء اللائي لا يخرجن من البيت إلا لأمر هام جدا. فالشباب يخرجون إلى المقاهي ويتسامرون مع نظرائهم مساء. نعم، كانت مشاهدة التلفزيون هي الأخرى تحتاج إلى جهد استثنائي وكنا نبذله بسعادة.
عندما أتوعك، كانت نعيمة لا تهدأ ليلا أو نهارا، فتظل ترعاني وتراقبني باستمرار، وكنت أصحو ليلا فأجدها قريبة مني تتلمس جبهتي لمعرفة درجة حرارة جسمي، وتقدم لي الدواء المناسب إن رأت أنني محتاج إلى دواء. لم أكن أنام في طفولتي المبكرة حتى تسرد لي قصة من القصص المحببة إلى نفسي، وكانت دائما تخيُّرني أيَّ قصةٍ أود أن اسمعها، وكنت أختار القصص الغريبة الطريفة الطويلة التي كانت قد سردتها في ليالٍ سابقة، كقصة دقيانوس التي أحببتها كثيرا، لكنني كنت أنام قبل أن تكتمل القصة.
ذهبت نعيمة اليوم إلى بارئها، وقد عاشت 75 عاما كان معظمها مكرسا من أجل أفراد عائلتها، فقد خدمت أمها لعشر سنوات أثناء مرضها وخدمت أباها وأخوانها الستة وأعمامها. وخدمت خالاتها الست وعماتها الأربع، والأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات والأسباط والسبطات. كان بيتنا يزدحم بالأقارب خصوصا في المناسبات، وما أكثرها، بل وحتى خارج المناسبات، فالتزاور كان سمة من سمات الأقارب والأصدقاء، الذين يتجمعون في العادة في بيت كبير العائلة، أو عميد الأسرة، وكانوا يأتون إلى بيتنا دون سابق إنذار، فهم يعتبرونه بيتهم، ولم تكن هناك هواتف في منازل معظم الناس، ولا طرق اتصال أو تواصل، سوى التلغراف الذي يستخدم في الأمور العاجلة فقط.
لم يكن الزائر يمضي فترة قصيرة، يوما أو يومين مثلا، فالحد الأدنى للزيارة هو أسبوعٌ أو اسبوعان أو شهرٌ أو شهران. كان بيتنا ومضيفنا يزخران بالزائرين، وكأن عندنا مهرجانا متواصلا، ورغم أن تلك الزيارات الجماعية كانت ترهقنا وتأتي علينا بالتعب وتكلفنا ماليا، لكننا كنا نسعد حقا بوجود الأصدقاء والأقارب ونفرح كثيرا عند قدومهم ونحزن لمغادرتهم. وكان العبء الأكبر من الخدمة يقع على نعيمة، وكانت لا تمل ولا تكل من الخدمة، بل تقدمها بمرح وسعادة ورحابة صدر. أتذكر أن قدمها قد تعرضت للكسر ذات يوم، فلم تكن قادرة على السير عليها لكنها لم تتوقف عن العمل في البيت، بل كانت تزحف زحفا من مكان لآخر لإنجاز أعمال البيت!
أخي الراحل حسن الكفائي-بغداد تشرين الأول 2005
كانت تحرجني أحيانا في السنوات الأخيرة، عندما تخاطبني أمام الأطفال قائلة (حميد أنت لم تعطِ فلانة هدية عندما نجحت في المدرسة أو أو أو)!!! فاضطر لأن أدفع (بالتي هي أحسن)! وعندما لا أجزل العطاء، تنبهني علنا، هذا قليل يا حميد، أعطهم أكثر! وقد تعلمت أن أحمل معي نقدا دائما كي لا أُحرج عندما تأمرني بأن أدفع لهذا أو ذاك. كنت أسعد بإطاعة أوامرها، وكانت سعادتها غامرة عندما ألبي طلباتها البسيطة التي لا تتعدى إكرام هذا الطفل أو ذاك. كانت تفخر بي كأخ يقيِّم أخوتَها وفضلَها عليه، وكانت تبكي كلما ذكَّرتها بأن فضلها علي يفوق كثيرا فضل أمي، وكانت تلك هي الحقيقة. فبينما كانت أمي منشغلة في أمور البيت الكثيرة، كانت نعيمة تهتم بي وأخوتها الصغار، وكنا جميعا أصغر منها.
كان والدي مشغولا بعمله وعلاقاته الاجتماعية المتشعبة. كان كريما ومتسامحا مع الجميع، وأتذكر بأنه كان ينصت لما تقوله نعيمة بإصغاء واحترام. وإن كان يرد علينا ويجادلنا، أو يزجرنا أحيانا، فإنه لم يجادل نعيمة ولم يرد لها طلبا مطلقا. كانت لها هيبة بيننا جميعا، وكان احترام والدي الاستثنائي لها يجعلنا نفكر بأنها متميزة، وقد كانت فعلا كذلك.
مشاغل الحياة المتشعبة تلهينا جميعا عن التواصل مع بعضنا، لكن نعيمة كانت تتفقدنا جميعا، بمكالماتها المتواصلة. لا شك أن كثيرين سيفتقدونها، خصوصا الأطفال. سيفتقدون فيها الكرم والأريحية والصراحة. أما أنا، ففضلها علي ابتدأ منذ الولادة، ولم ينتهِ إلا اليوم! ستبقى في قلبي وذاكرتي ما حييت. لن أنسى أنها علمتني الدروس الأولى في الحياة. ولن أنسى أنها بشّرتني بنجاحي الأول. ولن أنسى تعاملها الإنساني الراقي معي، ومعاملتها لي كرجل بالغ حتى عندما كنت طفلا. وقد زادني ذلك التعامل الراقي ثقة بنفسي ودفعني إلى التصرف كرجل بالغ قبل بلوغي بسنين.
لم أعصِ لها أمرا في حياتي. ولكن مع ذلك أشعر بأنني قصرت بحقها. كانت تسعد برؤيتي، لكنني كنت شحيحا عليها. كم كانت ستسعد لو كنت بجانبها في أيامها الأخيرة. لكنني غير محظوظ. فلم أكن إلى جانب أمي في أيامها الأخيرة، ولم أحظَ برعاية أبي قبيل رحيله، رغم أنني حظيت بزيارته لي في لندن قبل رحيله بعامين. ذهبت نعيمة، لكن أعوامها الخمسة والسبعين كانت حافلة بالعطاء. ذكرياتي ممتلئة بكرمها وسموها وخلقها الرفيع. أفضالها تطوقني وذكراها تحيط بي من كل صوب.
نامي فوق التراب، أختي العزيزة، فلستِ من أهل الحرير، وكلنا سنلحق بك يوما**…. لكن جرحك سيبقى نازفاً، إلى جانب جرحيْ حسن وحسين، اللذين أنهكاني!
حميد الكفائي
17 آب 2020
*من قصيدة للشاعر العباس بن مرداس
** من قصيدة للشاعر محمد مهدي جواهري في رثاء الشاعر معروف الرصافي:
لاقيت ربكَ بـ “الضميرِ” وأنرتَ داجيةَ القبورِ
وأشعتَ في الأبدِ البهيمِ، طلاقةَ الأبدِ المنيرِ
معروف نم فوق التراب فلست من أهل الحرير